تتعرض بلدان المغرب العربي لحالة من عدم الاستقرار السياسي هذه الأيام، وقد يتساءل المرء عن مسببات تلك الأحداث. وهناك عدة تساؤلات مهمة عن جذور الأحداث ومسبباتها، وهي لا تعدو أن تكون ذات طابع سياسي أو اقتصادي أو سكاني، أو زراعي. وذلك يعني أن أية محاولة لفهم مسببات هذه الاضطرابات ينبغي أن تنظر في كل إطار من أطر هذه المشكلة. ولعل البعد الأول هو مسألة الغذاء، فقد تعرضت أسعار المواد الغذائية لارتفاعات شديدة على مستوى العالم خلال عامي 2007 و2008، ثم ما لبثت أن هدأت حدة الارتفاعات عام 2009 وفي النصف الأول من عام 2010. غير أن أسعار كل من السكر وزيوت الطعام واصلت ارتفاعاتها حتى وصل سعر السكر، حسب إحصاءات منظمة الأغذية والزراعة الدولية "الفاو"، إلى أربعة أضعاف مستوياته عام 2004، وكذلك كان الحال مع القمح الذي زادت أسعاره بنسبة 250% خلال ستة أعوام، ولعل المصدرين الغذائيين الوحيدين اللذين بقي سعرهما شبه ثابت على مستوى العالم خلال تلك الفترة هما منتجات الحليب واللحوم. ومع أن إحصاءات "الفاو" تشير إلى الزيادة التي حدثت خلال الخمسة أعوام الماضية في أسعار المواد الغذائية، إلا أنها لا تتوقع أن تتواصل مثل هذه الزيادات خلال العقد القادم، طالما ظلت أسعار النفط دون حد 120 دولاراً للبرميل الواحد. وبالنسبة لإنتاج الغذاء في بلدان المغرب العربي، فإن المغرب يعتبر واحداً من أغنى البلدان العربية في الموارد المائية، ولذلك فلا غرو أن تزيد من إنتاجها الغذائي من القمح خلال الأربعة أعوام الماضية. أما تونس فقد تراجع إنتاجها من القمح إلى نصف ما كان عليه عام 2004، وذلك بسبب شح الأمطار. وكذلك إنتاج الجزائر من الحبوب تراجع هو أيضاً بنسبة 27% عام 2010 مقارنة بالعام الذي سبقه. ومن ناحية مستوى معيشة السكان، فقد جعل تقرير الأممالمتحدة الخاص بالتطور المعيشي الإنساني للسكان (HDI) تونس في مقدمة دول المغرب العربي في تحسن الحالة المعيشية خلال عشر سنوات، وتلاها كل من الجزائر والمغرب. وعلى رغم هذه الإحصاءات غير الدقيقة في نظري، فإن الزيادة الهائلة في عدد السكان قد حالت دون الاستفادة القصوى من الموارد المتاحة، ما زاد في نسب البطالة في هذه الدول، خاصة في صفوف الشباب. وحسب الإحصاءات التي يوردها الدكتور "لاشين" من "معهد كارنيجي"، تصل نسب العاطلين عن العمل في هذه الدول إلى حدود 30% من الشباب، وترتفع هذه النسب بين النساء لتصل إلى 69% من النساء في المغرب، و72% في تونس و75% في الجزائر. وتؤثر حتماً هذه النسب العالية للعاطلين عن العمل بين الشباب في الاستقرار السياسي لهذه البلدان، وتدفع المزيد منهم إلى الوصول إلى حال من الإحباط الكامل. كما أن الاستقرار السياسي بطبعه مقترن بدرجة كبيرة بالشفافية وأطر الحكم الرشيد. وكلما زادت هذه النسب كلما زاد الاستقرار السياسي، وزادت شرعية النظام السياسي. غير أن مشكلة بلدان المغرب العربي تكمن كذلك في ارتباط معظم الوظائف فيها بقطاع السياحة والخدمات. وقد تأثرت هذه القطاعات بشكل كبير بالتراجع الحادث في الأوضاع الاقتصادية في البلدان المصدرة للسياح، خاصة في أوروبا. ولذلك كانت وظائف هذا القطاع ضحية للأزمة المالية العالمية التي لا زالت متفاقمة في بلدان الاتحاد الأوروبي. غير أن الشعور الباطن لدى الجماهير يتأثر حتماً بمشاعرها الجياشة، خاصة حين يتعرض أحد أفرادها عمداً لإلحاق الأذى بنفسه نتيجة لإحباط عظيم أصابه، وقد كانت ردة فعل الجماهير الغاضبة نتيجة حرق أحد الشباب نفسه، عميقة جدّاً حيث هزت المجتمع عن بكرة أبيه. ولا شك أن بلدان المغرب العربي بحاجة اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى التلاحم والركون إلى الأمن والاستقرار الذي هو عمود كل نماء اقتصادي أو سياسي. ولا يمكن أن تعود هذه المجتمعات إلى بناء نفسها، إلا في وجود أمن وأمان وإبرام عقد اجتماعي جديد. كما أن السياسات الجديدة التي اتخذتها الحكومات المعنية الهادفة إلى زيادة توظيف الشباب، وزيادة نسب الانفتاح والمشاركة من شأنها أن تخفف من الاحتقان الحادث في الوقت الحاضر. ومن واجب المنظمات الدولية المعنية بالمعونة والغذاء أن تساعد هذه الدول على الخروج من مأزقها الغذائي الذي تعيش فيه، وذلك عن طريق تقديم شحنات من الأغذية بأسعار منافسة أو مدعومة تمكن قطاعات عريضة من الشعب من الحصول على احتياجاتها الأولية المناسبة. كما أن استمرار الشح في مياه الأمطار في المنطقة التي تعتبر سلة المغرب العربي بأكمله، يحتاج إلى حلول جذرية إما بسحب المياه من مناطق بعيدة، أو باللجوء إلى تحلية المياه خاصة في المدن الساحلية التونسية منها، والجزائرية. ومثل هذه الحلول العملية لن تكون كافية وحدها دون ربطها بحلول سياسية واجتماعية عميقة، تعيد النماء والازهار لبلدان كانت ولا تزال في طليعة البلدان العربية علماً وحضارة. * نقلا عن صحيفة الاتحاد الاماراتية