اعداد : خالد مجد الدين أدت الأزمة المالية العالمية 2008-2009 إلى عدد من التدخلات الحكومية فى الاقتصاد على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم. وشملت هذه التدخلات ضخ حجم هائل من السيولة، والسيطرة على المؤسسات المالية الضعيفة، وتمديد مخططات التأمين على الودائع، و تزايد المشتريات الحكومية للأصول المتعثرة، وإعادة رسملة البنوك، بطبيعة الحال، تضمنت الاجراءات الحكومية حزم من التحفيز المالي، وأحيانا على نطاق لم يسبق له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية . حتى صندوق النقد الدولي، الحارس التقليدى على المالية العامة العالمية ، دعم بقوة لصالح تخفيف القيود المالية، بل خرج مدير الصندوق ليصرح بانه ‘اذا كان هناك وقت في التاريخ الاقتصادي الحديث يتطلب التدخل فى السياسة المالية واستخدام سياسات التحفيز، فهو الآن . انه الوقت الحالى الذى يجب ان تستخدم فيه هذه السياسات ، في كل مكان حيث ممكن ان يتحقق هذا ، و فى اى مكان حيث هناك مساحة للتحرك بشان سقف الديون ، في كل مكان حيث التضخم منخفض بما فيه الكفاية و دون المجازفة بامكانية عودة التضخم" بالطبع يمكن للمرء أن يجادل حول اذا ما كانت الاستجابات للأزمة الاقتصادية قد تم تصميمها بشكل جيد في بلدان معينة، ولكن يبدو أن هناك قاعدة عريضة وإجماع على أن العمل الدولي السريع في عدد من الجبهات كان ضروريا لمنع حدوث كساد مماثل لازمة الكساد العظيم فى ثلاثينيات القرن العشرين مع العواقب الاقتصادية العالمية غير المتوقعة. ويلاحظ انه في السنوات التي تلت الازمة و تلت تزايد التدخلات الحكومية ، شهدت ارتفاعا فى مستويات الدين العام بسرعة، وخاصة بين الاقتصادات المتقدمة. ففى أسبانيا، على سبيل المثال، ارتفعت مستويات ديونها بدلا من اقل من 37 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2007 (ومعدل جيد ضمن معايير ماستريخت) إلى حوالي 100 % من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2014، وفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي.. و اسبانيا نموذجا واحدا ، فهناك العديد من البلدان وصلت المديونية العامة لها اليوم عند مستويات شوهدت آخر مرة مع نهاية الحرب العالمية الثانية . وهذه التطورات المالية، ادت الى ظهور نقاشا حاد، لا سيما في أوروبا، و أيضا في الولاياتالمتحدة ودول مجموعة التعاون و التنمية OECD الاخرى، حول الرغبة في استمرار سياسات التدخل المالي، للتخفيف من آثار ضعف النمو الاقتصادي وارتفاع مستويات البطالة. . وقد كُثفت هذه المناقشات إلى حد كبير على المستوى الاكاديمى في الآونة الأخيرة وكان لها الآثار غير المباشرة السياسية في بعض البلدان، مع استقالة وزراء كانوا ضد قيود سياسات "التقشف"، كما حدث مؤخرا في فرنسا. ولكن قد يبدو هذا النقاش إلى حد كبير غير مجدى، خاصة بالنسبة للعديد من البلدان، وهى في الواقع، ليس لديها متسع من الوقت للدخول في فترة طويلة من التوسع المالي، أملا في تحقيق إنعاش معدلات النمو المصابة بفقر الدم. وعلى هذه البلدان ان تسعى لتحقيق شكل من أشكال الاندماج المالي، بدعم من الإصلاحات الهيكلية والمؤسسية الأخرى، لانه قد يكون هذا المسار هو الوحيد القابل للتطبيق في السنوات القادمة. وهناك ثلاث حجج لدعم اهمية الاصلاحات الاقتصادية دون الاكتفاء بسياسات التدخل و التوسع المالى : 1- انخفاض مرونة التمويل المالى ضيق "الحيز المالي Fiscal space "هو مصطلح جديد نسبيا ، يشير إلى عدم مرونة الحكومة في وضع خيارات إنفاقها، وبشكل أعم، إلى يشير الى انخفاض الرفاه المالية للحكومة. . فهناك العديد من البلدان التى تعاني حاليا من قسوة "التقشف" ، و التى ستواجه ازمة " حيازة مالية" على مدى السنوات القليلة القادمة. ولنأخذ مثالا على ذلك: في عام 2013 كانت أسبانيا فى حاجة لتمويل ما اجماله لا يتجاوز 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. حوالي ثلثي هذا التمويل كان لسد فوائد الدين العام بينما بقية التمويل لسد عجز الميزانية المستمر. و على هذا اصبحت السلطات المالية الاسبانية، مجبرة على الدخول إلى أسواق السندات بشكل سنوي وطرح ما يصل قيمته نحو 300 مليار دولار أمريكي (و أرقام التمويل لهذا العام مشابهة إلى حد كبير لهذه الارقام).. و مثل هذا المستوى من التمويل يمكن أن التحكم به اذا كان في سياق اقتصاد عالمي متنامى مع وفرة تصاعدية من المستثمرين ومستوى ثقة جيد للمستهلكين ، لكن يصبح مثل هذا التمويل خطرا كبيرا إذا قرر المستثمرون أن عبء الديون لا يمكن تحمله. وفي هذا السيناريو، سوف ترتفع أسعار الفائدة (وأحيانا بسرعة مذهلة) وتتبخر فجأة قدرة الحكومة على تمويل نفسها بتكلفة معقولة . ومع مستويات الديون العالية، تصبح القدرة على المناورة المالية مرهونة بمزاج أسواق السندات الدولية. كذلك مع ارتفاع مستويات الديون ، ستكون هناك حصة متزايدة من الإنفاق سيتم توجيهها الى خدمة الدين، وسيرافق هذا الحد من الإنفاق على التعليم والبنية التحتية والصحة وغيرها من المجالات التي من شأنها تحسين القدرة التنافسية.. وهذا فى النهاية يعني أن صناع القرار يجب ان يكونوا سباقين نحو الإصلاحات، بدلا من اللجوء لرد الفعل وفقا لعوامل البيئة الخارجية المتغيرة. 2- الضغوط متوسطة الأجل ( التكاليف الاجتماعية) البعض قد يقول انه لا ينبغي أن نقلق بشكل مفرط بشأن مستويات الديون الآن، فالمملكة المتحدة، والولاياتالمتحدة، على سبيل المثال، كانت مستويات الدين لديهما في نهاية الحرب العالمية الثانية أكثر من 100 %من الناتج المحلي الإجمالي. و نتيجة مزيج من الإدارة المالية الجيدة نسبيا، التى جلبت بعض التضخم والنمو الاقتصادي ، ادى لخفض مستويات الديون كثيرا فى منتصف سبعينيات القرن العشرين . المشكلة مع هذه الحجة الاقناعية ، أن العقود التي تلت الحرب/ كانت العوامل السكانية خلالها مواتية جدا، مع زيادات كبيرة في السكان ممن هم في سن العمل ، لكن اليوم لدينا مشكلة معاكسة، وهى شيخوخة السكان. حيث من المتوقع أن ترتفع بسرعة على مدى العقود القليلة القادمة تكاليف المعاشات والرعاية الصحية والمنافع الاجتماعية الأخرى. وفي الولاياتالمتحدة، على سبيل المثال، ولد نحو 78 مليون نسمة بين عامي 1946 و 1964 ، وبدأ هذا الفوج السكانى تقاعده في عام 2011. و المشكلة ليست قاصرة فقط على الدول الصناعية الغنية ، فهناك ايضا الصين وروسيا وبولندا واندونيسيا وتركيا والمكسيك، على سبيل المثال لا الحصر، لديهم مشكلة شيخوخة السكان الخاصة بهم. لذلك، في السنوات والعقود القادمة، سيكون هناك ضغوط مالية لم تكن موجودة في أواخر الاربعينيات و الخمسينيات من القرن المنصرم ، و من شأنها أن تضيف إلى حد كبير أعباء على الميزانية وتقوض قدرة الحكومات على ان "تنمو للخروج من ازمة الديون". 3- الأسواق المالية غير مستقرة العامل الثالث الذى يؤكد ضرورة اللجوء الى الاصلاح الاقتصادى دون اللجوء الى سياسات التوسع المالى ، هو عدم استقرار الاسواق المالية العالمية . . وهو ما يؤكده الكثير من الاقتصاديون ومن بينهم "روبرت شيلر Robert Shiller "وهو مراقب رائد في مجال الأسواق المالية ، والذى سبق و أصدر تحذيرات متكررة حول "فقاعة العقارات" في الولاياتالمتحدة. ويقول شيلر أن "الاقتصادات الرأسمالية، من دون موازنات الحكومات، هى اقتصادات أساسا غير مستقرة . . لذا لا يوجد يقين بالتالي، من أننا لا يمكن أن نواجه مرة أخرى ما رأيناه في عام 2008 بعد انهيار بنك ليمان Lehman ، أو امر ما على شاكلته " . وما يجعل هذا السيناريو كابوسى هو أن قدرة الحكومات على منع حدوث الكساد الاقتصادي من خلال مجموعة متنوعة من التدخلات، مثل تلك التى اتخاذها بين عامى 2008-2009، سوف يكون له تاثيرا كبيرا جدا على الموازنة المالية الخاصة بهم. وفي غياب التدخلات الحكومية ، يتبقى السيناريو الأمريكي اللاتيني خلال عقد الثمانينيات، وكانت اهم مظاهره : العجز عن سداد الديون والتضخم المرتفع جدا، إلا أن هذه المرة سيكون تأثيره عالمي وسيؤدى الى زعزعة الاستقرار إلى حد كبير. لذا فأن أزمة مالية أخرى يمكن أن يضع نفس النوع من الضغوط على الميزانيات التي رأيناها بعد عام 2008، ولكن هذه المرة ستكون الازمة أسوأ بكثير نظرا لانها ستكون مترافقة بمستويات مديونية هى بالاصل مرتفعة جدا . وعلى ماسبق .. يعتبر امرا مضللا ان نعتقد ان الاسترخاء فقط اعتمادا على انتهاج سياسات مالية محفزة ستؤدى بالطبع لتقويض الميزانيات وتسمح بوجود عجز مالى أكبر ومستويات أعلى من الديون، سيحل المشكلة و يفك الازمة الاقتصادية و سيقضي على الحاجة لاجراء إصلاحات اقتصادية و اجتماعية مؤلمة تأخر الاخذ بها طويلا ، و اصبحت البلدان المثقلة بالديون في أمس الحاجة إليها اليوم قبل الغد.