بقلم: فاروق جويدة لا أحد يستطيع ان ينكر أو يتجاهل حالة الفراغ السياسي والفكري التي يعيشها المجتمع المصري رغم كل ما شاهده من المظاهرات والاعتصامات والصدامات التي غيرت حسابات كثيرة كانت يوما من المسلمات التي تعايش المصريون معها بالخطأ والصواب.. نحن نعيش حالة من الفراغ السياسي يؤكد ذلك ما وصل إليه الواقع السياسي من الانقسامات والتشرذم.. يؤكد ذلك أيضا حالة الترهل التي تعاني منها الأحزاب السياسية.. وقبل هذا كله فإن غياب الشباب عن الساحة السياسية في العامين الأخيرين يثير الكثير من القلق والتساؤل.. على جانب آخر فإن الفراغ الفكري الذي تعاني منه الأجيال الجديدة كان الثمار المرة لثقافة هشة.. وإعلام ساذج وتعليم متخلف.. إنها ثلاثية التراجع في مسيرة المصريين في السنوات الماضية، فلم ينتبه أحد إلى أن العقل المصري يتعرض لعملية تجريف منظمة تبدأ في حصص الدراسة بالمدارس وتنتهي بسيل هادر من التخلف في الفضائيات مروراً على مواكب الثقافة العشوائية التي اجتاحت عقول الأجيال الجديدة ما بين مهرجانات السطحية وجلسات التخلف، ولعل ثمارها جميعا ما شاهدناه في جامعاتنا ومدارسنا حين خرج الطلاب يضربون الأساتذة ويحرقون المدرجات وينتقمون من مجتمع أخطأ في تربيتهم وتعليمهم فجأوا على غير ما أراد. إن الأزمة الحقيقية في قضية الفراغ السياسي انه ترك الشارع خاليا لكل الأفكار الهدامة حتى وصلت بنا إلى مناطق التطرف والإرهاب.. إن الإرهاب هو الابن الشرعي للتطرف الفكري.. وهذا التطرف الفكري هو حصاد ثقافات الجهل والتخلف والمهرجانات الصاخبة التي لم تحمل فكرا ولم تحرر عقولا.. أن الذين يحملون السلاح ضد أوطانهم يعانون أمراضا فكرية وعقلية ولن يكون العلاج الأمني هو الطريق الوحيد لإنقاذهم أنهم في حاجة إلى علاج فكري يعيد لهم الرشد والصواب. والشئ الغريب أن الفراغ الفكري ارتبط دائما بالفراغ السياسي وكان السبب في ذلك أن السياسة عندنا تحولت إلى كيان ضخم جمع كل المتناقضات وكانت غطاء مشروعا للصراعات الفكرية والثقافية وحتى الاجتماعية.. لقد أصبحت السياسة بديلا عن كل الأشياء، كانت خصومات المثقفين في جوهرها سياسة.. وكانت الصراعات الاجتماعية أبعد ما تكون عن جوانب الفكر وأقرب ما تكون من الصراعات السياسية.. وإذا كان من الصعب أن نفصل بين الفكر والسياسة إلا أن الفكر هو الوعاء الأوسع والأشمل ولا ينبغي أن تكون السياسة وصية عليه.. لا أتجاوز إذا قلت إن السياسة أفسدت أشياء كثيرة في حياتنا.. لقد أفسدت المناخ الثقافي.. وأفسدت لغة الحوار.. وقسمت المجتمع تحت رايات سياسية باطلة ومضللة.. وقبل هذا كله انتزعت جزءا عزيزا من التراث الفكري والإنساني للمصريين وهو الوطن.. كانت الوطنية المصرية تسبق كل اللافتات الأخرى سواء كانت حزبية أو دينية أو سياسية أو حتى طبقية.. ولكن للأسف الشديد تراجعت مقومات الوطنية المصرية أمام شعارات سياسية براقة وخادعة في معظم الأحيان. كانت الوطنية المصرية تسبق كل الأفكار السياسية وكان الوطن قبل كل شئ.. رغم الخلافات في الدين والعقيدة والفكر السياسي.. والأهداف الاجتماعية وحتى النظر لقضايا الحريات، كانت الوطنية المصرية تجمع كل هذه المتناقضات وتحميها في ساعات الانقسامات والخصومات والصراع.. ولكن هذه الثوابت تلاشت حين سبقت السياسة كل شئ بما في ذلك الدين والوطن والبشر. وقد ترتب على ذلك أن أصبح الدين هدفا سياسيا.. وتلاشت الثوابت الوطنية بل والأخلاقية أمام متطلبات السياسة ودوافعها ولغة المصالح فيها.. حين عصفت السياسة بثوابت الحياة المصرية غاب البعد الوطني الذي طالما توحدنا تحت رايته وتلاشت مصالح الأوطان أمام رغبات الأفراد.. لقد كان السبب الرئيسي في هذا التراجع تلك الكيانات السياسية الهشة والمريبة التي أنشأتها الحكومات المتعاقبة لملء الفراغ السياسي وتقديم نماذج معلبة لتيارات وأحزاب وتجمعات سياسية غير حقيقية. كانت هيئة التحرير والاتحاد القومي والاتحاد الاشتراكي وحزب مصر والحزب الوطني صناعات حكومية افتقدت روح الحرية وقدسية الفكر والوطنية الصادقة.. هذه التجمعات لم تقدم تجارب سياسية لتصنع مناخا سياسيا يقوم على احترام الحريات والتعددية والانتخابات الحرة.. كانت جميعها تحمل ملامح واحدة وهي منظومة الحزب الواحد.. والواقع أن هذه المنظومة المرتبكة الخاطئة كانت سببا في اتساع مساحة الفراغ السياسي بحيث تحولت الساحة السياسية إلى مجموعة من الكومبارس السياسي الذي يدور حول البطل سواء كان اتحاداً قوميا أو اشتراكيا أو مجموعة من رجال الأعمال في الحزب الوطني المنحل. أن البعض يحاول أن يلبس النظام السياسي الجديد نفس المنظومة القديمة تحت دعاوى ضرورة وجود ظهير سياسي للرئيس السيسي.. أن هذا الطرح الساذج والمريب يريد أن يعود بنا إلى تلك المنظومة القديمة تحت ستار حماية النظام.. وفي تقديري أن الذي يحمي أي نظام هو انجازاته وحرصه على مصالح شعبه والدليل أن نظام الإخوان المسلمين لم يستطع أن يدير شئون مصر أكثر من عام واحد وكان الفشل مصيره المحتوم.. أن السيسي لا يريد ظهيراً سياسيا ولكنه يريد دعما وطنيا من كل أبناء هذا الشعب، ولا ينبغي أبدا أن يمثل فريقا أو تياراً سياسيا حتى لا نسقط مرة أخرى في أسطورة الحزب الواحد أو وصاية الجماعة.. لقد انطلق السيسي من إرادة شعبية ولم يحمله إلى السلطة حزب أو تيار.. ولهذا ينبغي أن يستعيد الشارع المصري انتماءه القديم للوطن بعيدا عن التقسيمات السياسية التي وصلت بنا يوما إلى مواجهة حادة ما بين التيارات الدينية التي تخفت في السياسة والتيارات السياسية التي أهدرت قيمة الوطنية المصرية. إن الوطن يسبق كل شئ وإذا كنا نريد للرئيس السيسي ظهيرا فينبغي أن يكون ظهيرا وطنيا وليس سياسيا.. لقد أفسدت السياسة أشياء كثيرة في حياتنا ولنا معها تجارب سيئة وحين سيطرت على عقولنا كانت الانقسامات والصراعات والفرق والطوائف.. إن مصر هي الظهير الذي يحمينا جميعا من تقلبات السياسة ومؤامرات الساسة والشارع المصري لا يحتاج إلى المزيد من الصراعات.. إن بقايا النخبة من المثقفين والانتهازيين الذين يطوفون الآن حول أبواب السلطة يريدون دوراً لا يجيدون غيره وقد لعبوه كثيرا ويتوهمون الآن أن الزمن يمكن أن يعود إلى الوراء.. إن الرئيس السيسي لا يريد ظهيرا سياسيا ولكنه يريد إرادة وطنية تضم كل المصريين لإنقاذ مصر من محنتها.. أن أزمات مصر أكبر من كل الطوائف وأشمل من كل التيارات وأعمق من كل الصراعات ولهذا ينبغي أن يكون الحرص على توحيد هذا الشعب وليس تقسيمه إلى طوائف.. لقد عشنا تجارب مريرة مع منظومة الحزب الواحد سنوات طويلة ولم تنجح في خلق مناخ سياسي وفكري متقدم.. وجربنا تجربة الجماعة والوصاية الفكرية والدينية تحت ستار السياسة وفشلت التجربة فشلا ذريعا.. وليس أمامنا الآن غير أن نعيد ثوابتنا القديمة في إحياء منظومة مصر الوطنية التي قامت عليها زمنا طويلا كل مدارس النضال الوطني من أجل حياة أفضل. إن الذين يعرضون بضاعتهم القديمة التي تجسدت في منظومة الحزب الواحد لا يدركون أن مصر تغيرت وان الشعب المصري الذي عاش كل هذه التجارب الخاطئة لن يسمح لأحد أن يخدعه مرة أخرى ببضاعة فاسدة انتهى عمرها الافتراضي.. ينبغي أن نترك الرئيس الجديد يخوض تجربته ويسعى لان يكون رئيسا لكل المصريين مدافعا عن حقوقهم جميعا في حياة حرة كريمة وان يقدم للمواطن المصري كل ما يستطيع من وسائل التقدم والبناء.. لقد فشلت التجارب السابقة في وضع مصر على خريطة الدول المتقدمة فكريا وسياسيا واقتصاديا وكان السبب في ذلك إنها كانت تجارب ارتجالية ولم تقم على قواعد ثابتة من الفهم والوعي والتخطيط، وكانت النتيجة هذا الفراغ السياسي الرهيب الذي نعيش فيه وتعاني منه مواكب الشباب الواعد.. وهنا ينبغي أن نعطي للشباب أهمية خاصة لأنه صاحب المستقبل ولأنه لم يغرق كما غرق غيره في تلك المياه الفاسدة التي فرغت هذا الوطن من كل مقومات تفرده وريادته.. يجب أن يحمل الشباب الراية لأنه الطرف الوحيد في هذا المجتمع القادر على استيعاب روح العصر، وعلى أصحاب التجارب الأخرى أن ينسحبوا من الميدان ويتركوا مواكب الشباب تخوض تجربتها وتعيش زمانها وتصنع مستقبلها. أن الرئيس السيسي في حاجة إلى جهد كل المصريين لان المهمة صعبة والأعباء ضخمة ولن يستطيع فريق أو ظهير أو فئة من البشر أن تتحمل المسئولية وحدها ويكفي تجارب الماضي ما بين الحزب الواحد والجماعة وتكفينا أخطاء الماضي. أننا نعيش لحظة تاريخية صعبة وفارقة ويجب أن تتجه كل القوى السياسية والفكرية إلى توحيد إرادة هذا الشعب وبدلا من العبث في أنقاض الماضي والبحث بين أطلاله عن بداية جديدة يجب أن نتخلص تماما من هذه الأنقاض ونبدأ من جديد على أسس من العمل والانجاز ومواجهة الحقيقة. ان الظهير الوطني هو الهدف والغاية لأي نظام يسعى للبناء أما الظهير السياسي فسوف يحمل كل أمراض السياسة وقد عانينا منها زمنا طويلا. ..ويبقى الشعر وجْهٌ جَمِيلٌ .. طافَ فِى عَيْنى قليلا ً .. واسْتَدارْ فأراهُ كالعُشْبِ المسَافِر .. فِى جَبين ِ الأرْض يَزْهُو فِى اخْضِرَارْ وتَمرُّ أقْدَامُ السنِين عَليهِ .. يَخْبُو .. ثُمَّ يسْقُط فِى اصْفرَارْ كمْ عِشْتُ أجْرى خَلْفَهُ رَغمَ العَواصِف..والشَّواطِىء.. والقِفَارْ هَلْ آنَ للحُلْم المسَافِر أنْ يَكُفَّ عَن ِ الدَّوَارْ ؟ يَا سِنْدباد العَصْر .. إرجعْ لمْ يَعُدْ فِى الحُبِّ شَىْءٌ غَيْرُ هَذا الانْتحَارْ ارْجعَ .. فَإنَّ الأرْض شَاخَتْ والسّنونَ الخُضْرَ يَأكُلُها البَوَارْ ارْجعْ .. فإنَّ شَوَاطىءَ الأحْلام ِ أضْنَاهَا صُرَاخُ المَوْج مِنْ عَفَن ِ البِحَارْ هَلْ آنَ للقَلْبِ الذى عَشقَ الرَّحِيلَ بأنْ يَنَامَ دَقيقة ً .. مِثْلَ الصِغَارْ ؟ هلْ آنَ للوجْهِ الَّذِى صَلَبُوه فوقَ قِناعِهِ عُمْرًا بأنْ يُلْقِى الِقنَاعَ الُمسْتَعَارْ؟ وَجْهُ جَمِيلٌ طافَ فِى عَيْنى قليلا ً .. واسْتَدَارْ كانَ الوداعُ يُطلُّ مِنْ رَأسِى وفِى العَيْنَين ِ سَاعَاتٌ تدُقُّ .. وألفُ صَوْتٍ للقِطَارْ وَيْلى مِنَ الوجْه البَرىء .. يغُوصُ فى قلْبى فيُؤلمُنى القرارْ لمَ لا أسَافرُ بَعْدَ أنْ ضاقتْ بى الشُّطآنُ .. وابْتعَدَ المزارْ ؟! يا أيُّها الوجه الذى أدْمَى فؤَادى أىُّ شَىْءٍ فيكَ يُغْرينى بهَذا الانتظارْ ؟ مَا زالَ يُسْكرُنى شُعَاعُكَ .. رَغْمَ أنَّ الضَّوْءَ فى عَينىَّ نارْ أجْرى فألمَحُ ألْفَ ظلٍّ فِى خُطاىَ فكيْفَ أنجُو الآنَ مِنْ هَذا الحِصَارْ ؟ لِمَ لا أسَافِرُ ؟ ألفُ أرْض ٍ تحْتَوينِى .. ألْفُ مُتَّكإٍ .. ودَارْ أنا لا أرَىَ شَيْئًأ أمَامِى غَيْرَ أشْلاءٍ تُطاردُهَا العَواصِفُ .. والغُبَارْ كمْ ظلَّ يَخْدَعُنِى بَريقُ الصُّبح فِى عَيْنَيْكِ .. كُنْتُ أبيعُ أيَّامِى ويَحمِلُنى الدَّمَارُ .. إلى الدَّمَارْ قْلبى الذَّى عَلَّمتُهُ يَومًا جُنونَ العِشْق ِ عَلَّمَنِى هُمُومَ الانْكسَارْ كانتْ هَزَائِمُهُ عَلى الأطْلال ِ.. تَحْكِى قِصَّة القَلْبِ الَّذِى عَشقَ الرَّحيلَ مَعَ النَّهَارْ ورَأيْتُهُ نَجْمًا طريدًا فِى سَمَاءِ الكَوْن ِ يَبْحَثُ عَنْ مَدارْ يَا سِنْدبَادَ العَصْر عهْدُ الحُبِّ ولّى .. لنْ تَرَى فِى القَفْر لؤلُؤة ً.. ولنْ تَجِدَ المحَارْ وَجْهٌ جَمِيلٌ .. طافَ فِى عَيْنِى قليلا ً .. واسْتَدَارْ وَمَضَيْتُ أجْرى خَلْفُه .. فوجَدْتُ وَجْهِى .. فِى الجِدَارْ قصيدة "النجم يبحث عن مدار" 1993 نقلا عن جريدة الأهرام