فى البداية وقفنا جميعا دقيقة حدادا على أرواح أطفالنا الذين زهقت أرواحهم ليحفروا فى أعماقنا جرحا دائما. كان موعدنا فى مهرجان الدوحة ترايبكا مع ندوة عن حال السينما فى مصر بعد الثورة، ودائما لمصر مساحة خاصة. كان شبح الإخوان والهيمنة الدينية يطل على المشهد، وكان أيضا الخوف من إبداء الرأى القاطع والمتحدى يشكل طوق نجاة لأغلب المتحدثين على المنصة، هل يخشى النجوم من إبداء الرأى أم أنه إحساس حقيقى بأنه لا يوجد ما يدعو إلى الخوف.
مصر القادمة ليست هى مصر الآن، الغيوم هى التى تملأ الصورة ولكن أيضا هناك الأمل. لا شك أن تحجيب السينما أحد الأهداف الاستراتيجية لمن يريدون تحجيم المجتمع، وهى أيضا أحد الأسلحة الرئيسية لمن يسعون إلى الدفاع عن الحرية.
كان على المنصة يسرا ومحمد حفظى ونيللى كريم وهند صبرى وخالد أبو النجا.. هند تونسية ولكن رصيدها الفنى المصرى يجعل وجودها فى الوفد المصرى لا يثير حفيظة أحد سوى هند، التى ربما خشيت من أن يعتبر بعض الزملاء التوانسة أن وجودها يعنى أنها لا تعتز بتونسيتها فقالت أنا تونسية.
هل الثورة حجَّمت السينما؟ البعض وجدها فرصة لكى يرى فى الثورة الجانى الذى غير وجه مصر السينمائى إلى الأسوأ. كانت السينما تنتج أفلاما بالتأكيد أكثر، شركات الإنتاج الكبرى حتى الآن لا تزال تتحسب للخطوة القادمة، بينما لدينا سينما أخرى مختلفة لا تجد لها مساحات فى دور العرض، إنها السينما التى تعارفنا أن نُطلق عليها مستقلة ومصر القادمة سوف تفتح قلبها لتلك السينما.
أتذكر قبل عامين فى نهاية شهر أكتوبر كنا نحتفل بحصولنا على جائزتين واحدة من ترايبكا فى دورته الثانية عن فيلم إبراهيم بطوط «الحاوى»، والثانية من قرطاج «تانيت ذهبى» عن «ميكروفون» لأحمد عبد الله. ولكن الجمهور المصرى من المؤكد لا يعرف شيئا عن الفيلمين، بالمناسبة عُرضا تجاريا فى صمت رهيب. هل تلك السينما معزولة عن الناس أم أن صناعها لا يعنيهم الجمهور. المشكلة أن البعض ارتاح إلى تلك التقسيمة نصنع فيلما قليل التكلفة بلا نجوم، لا ننتظر مردودا من شباك التذاكر، وفى نفس الوقت نحصل على مكسب صغير من بيعه لمحطات وتسويقه فى مهرجانات، كأن السينما من الممكن أن تُصبح سينما بعيدا عن الجمهور.
الاستسلام أرى فيه مقتل هذه السينما، فلا توجد أفلام مصنوعة لعدد محدود أو لقطاع، ولكن ينبغى أن تمتد الرؤية إلى دائرة جماهيرية أوسع، لكى تصل الرسالة إلى الجمهور وحتى تتحقق أيضا لصناعة السينما دورة رأس المال.
السينما التجارية بمعناها التقليدى أتصورها أيضا تعانى بسبب ضبابية سوق الإنتاج. الأجور المليونية صارت تُشكل حائلا أمام تنفيذ الأفلام، ربما هذا يفسر لك لماذا هذا الزحف الضارى الذى شاهدناه من نجوم السينما على المسلسلات التليفزيونية؟ الإجابة هى أن سوق الفيديو لا يزال يضمن لهم تلك الأجور، بينما فى السينما التقليدية المغامرة غير مأمونة.
النجوم الكبار سوف يجدون أمامهم فرصة أراها أخيرة لكى يتغيروا إذا أرادوا أن يكملوا المشوار. لا حل سوى أن يتوافقوا مع الإيقاع الجديد لتلك السينما التى تعنى أن العصمة بيد المخرج لا النجم. السينما بملامحها التقليدية لن تختفى، فى العالم نرى أفلاما تُصنع على ملامح وإمكانيات نجوم الشباك، ولكن حتى هذه الأفلام ترى فيها إرادة المخرج حاضرة. ويبقى مفهوم الاستقلال فى السينما المصرية، فهى مستقلة، ولكن عن أى كيان، الشىء المشترك فى تلك الأفلام أنها تعبر عن إرادة مخرجيها، مثلا جهاز السينما المصرى التابع لوزارة الإعلام أنتج عام 2009 فيلم «واحد صفر» إخراج كاملة أبو ذكرى، أى أن رأس المال تابع للدولة، ولكن من الممكن أن نعتبر هذا الفيلم مستقلا بالمعنى الأدبى، فهو فيلم ترى فيه إرادة المخرجة ولا يعبر عن نجوم الفيلم.
السينما المستقلة فى مصر ليست هى بالضرورة السينما التى نرى فيها وجوها جديدة، وليست هى أيضا الفقيرة إنتاجيا، ولكنها السينما التى تتحرر من سيطرة النجوم، وعليها أن لا تُخاصم الجمهور. هذه السينما أراها سوف تواجه بقوة من التيار الإسلامى وعليها إذا أرادت الحياة أن تحتمى بالناس!