فعلها الخليل إبراهيم وهو لا يزال فتًى بين قومه، وهزَّأ أصنامهم بالثلاثة فى تحدٍّ صارخ ومدوٍّ، ربما كان هدف الخليل إبراهيم هو هذا الدوى وتلك الزلزلة، فلما اجتمع القوم وجاؤوا به «قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ.. قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا». يقصد أن كبيرهم هو الذى ضربهم وقتلهم، حتى اسألوه، «فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ»، لكن مشاعر المقاوحة والإنكار بلغت مداها، فإذا بهم يلومون أنفسهم على عدم حراسة الآلهة وظلموا بذلك أنفسهم وآلهتهم.. كل هذا العناد والجنان بدلا من أن يفيقوا على مسخرة ما يعبدون ويخافوا مزيدا من استخفاف واستفزاز إبراهيم لهم «فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ»، أطرقوا ثم قالوا: «لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ»، أى لقد علمت يا إبراهيم أن هذه الآلهة لا تنطق، فكيف تأمرنا بسؤالها؟! فعند ذلك قال لهم الخليل عليه السلام: «أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئا وَلا يَضُرُّكُمْ.. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ». هنا نجح إبراهيم عليه السلام فى استفزاز القوم وزلزلة عقيدتهم، وأغلب الظن أنه عند هذه اللحظة كان قرار قادتهم حرقه «قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانا فَأَلْقُوهُ فِى الْجَحِيمِ، فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَسْفَلِينَ».
وتسأل نفسك هنا أيضا ليه حرقه؟ ما كان من الممكن قتله فورا أو حتى حرقه بسرعة وفى لحظة، إنما هم فعلوا العكس، إحراقه ببطء، بل أخذوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الأماكن، فمكثوا مدة يجمعون له، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحرق إبراهيم. ثم عمدوا إلى جب عميق فوضعوا فيه ذلك الحطب وأطلقوا فيه النار فتأججت، والتهبت وعلا لها شررٌ لم يُرَ مثله قط. مرة أخرى ليه هذه الوحشية وهذا التلذذ بالحرق وقتل إبراهيم؟! إنما هو الرد الغاضب على الزلزال النفسى الذى فعله فيهم إبراهيم، كأنه حريقٌ المطلوب منه حرق أفكار وآراء إبراهيم فى عقل وقلب كل واحد منهم، وحتى يستقر مشهد الحريق والعقاب فيطغى على أى فكرة فى أذهانهم بقيت من زلزلة إبراهيم، حتى إنهم لم يرموا بأيديهم سيدنا إبراهيم، فى الجب بل وضعوا إبراهيم عليه السلام فى كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له «هزن»، وكان أول من صنع المجانيق، ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه كأنه يمكن أن يفر من جب عميق مشتعل بالنار لو لم يكن مكتف اليدين والقدمين.. شوف الغِلّ وشوف مدى الشك فى قوة إبراهيم كأنهم يخشون الذى حطم الأصنام أن يفعل ما هو أكبر. ولتدرك معى مدى التأثر الجبار بما فعل إبراهيم، وهو ما يدل على أنه كان يعى تماما وبدقة تأثير الصدمة التى يفعلها (وفعلها) عليهم يوم حطم الأصنام، وهو يقول: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين، لك الحمد ولك الملك، لا شريك لك. فلما وضعوا الخليل عليه السلام فى كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا، ثم ألقوه منه إلى النار، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل. فكان أول مخلوق فى الأرض يقولها، وهو ما يدل كذلك على أنه لم يكن يعلم بالتدخل الإلهى لإنقاذه وهو ما يؤكد كذلك أن هدفه فقط كان زلزلة عقيدة الكفر والاستبداد حتى لو كان الثمن الموت السريع دون استكمال الدعوة والرسالة، عن أبى صالح، عن أبى هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم لما ألقى إبراهيم فى النار: «اللهم إنك فى السماء واحد وأنا فى الأرض واحد أعبدك».
فتتدخل رحمة الله وعظمة الله وعدل الله وجبروت الله ومكر الله وحكمة الله «قُلْنَا يَا نَارُ كُونِى بَرْدًا وَسَلاما عَلَى إِبْرَاهِيمَ».
ومن أروع وأعظم ما يحكيه الرواة هنا أن السيدة أم نبينا إبراهيم نظرت إلى ابنها عليه السلام فنادته: يا بنى أريد أن أجىء إليك فادعُ الله أن ينجينى من حر النار حولك. فقال: نعم. فأقبلت إليه لا يمسها شىء من حر النار، فلما وصلت إليه اعتنقته وقبّلَته ثم عادت.