تفتكر ليه سيدنا إبراهيم عليه السلام قرر تحطيم الأصنام التى يعبدها قومه؟ أولًا: هو أعلن ذلك بوضوح، متحديًا لهم ومتوعدًا قومه ومحذرًا ومنذرًا «وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ»، واختلف المفسرون، فمنهم من قال إنه أعلنها وسمعها البعض، ومنهم مَن اعتبر أن إبراهيم قالها لنفسه سرًّا كاتمًا أمره، لكن الذى يؤكِّد أن النبى إبراهيم أعلنها على الجميع، من وجهة نظرى، أنهم بعد ذلك «قَالُوا سَمِعْنَا فَتى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ»، وهذا دليل على أنه قال ونشر وهاجم وأعلن. ثانيًا: تحطيمه الأصنام، حركة فيها عنف وحدَّة وتحدٍّ ساخر ومستفِزّ كذلك، فكيف بصاحب دعوة يريد نشر فكره، أن يدخل على قومه بهذا التحدى والعنف لا بالتى هى أحسن وبالحسنى والكلمة الطيبة، خصوصًا أن إبراهيم كان دائم لعن سنسفيل أصنامهم (وقُدّامهم): «مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِى أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ»، و«قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِى ضَلالٍ مُبِين»، و«أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ».
ثالثًا: أن هذا التحدى يعرِّض إبراهيم لعقاب منهم قد يصل إلى القتل ومن ثَم يموت فتموت دعوته وهدايته للناس قبل أن تُولَد!
فهل كان قرار إبراهيم تحطيمَ الأصنام إملاءً ربانيًّا ووحيًا يوحَى أم أنه فكر شاب (فتًى) مؤمن يسعى للمجابهة والمواجهة فى حالة استشهادية مبكرة؟ أتصور أن سيدنا إبراهيم فعل ذلك لإحداث زلزال فكرى ونفسى لدى قومه، الذين استمرؤوا الكفر والظلم وعبادة الأصنام، وكانت الزلزلة هدفًا فى حد ذاتها، بصرف النظر عن أى عواقب أخرى، حتى لو مات إبراهيم مقتولًا منهم عقابًا لما فعل، صحيح أن إبراهيم توكَّل على الله وفعل ذلك، ومَن يتوكَّل على الله فهو حسبه، لكن الفكرة كانت بكل المعايير الواقعية والمنطقية فكرة مجنونة، لكن هذه الواقعة من تحطيم الأصنام أحدثت أثرها المذهل، ثم أعقبها نصر الله بنجاة إبراهيم من الحريق.
سأعود إلى الواقعة ثم أشرح أكثر، تقول كتب التفسير وقصص الأنبياء ما ملخصه: إن لقوم إبراهيم عيدًا يذهبون فيه فى كل عام مرة إلى ظاهر البلدة، فدعاه أبوه ليحضره، فقال: إنى سقيم. كما قال تعالى: «فَنَظَرَ نَظْرَة فِى النُّجُومِ، فَقَالَ إِنِّى سَقِيمٌ». أى أن إبراهيم ادَّعى المرض، ليجلس فى البلدة وينفِّذ خطته فى تكسير الأصنام وأن يهين هؤلاء وأصنامهم غاية الإهانة. فلما خرجوا إلى عيدهم، واستقر هو فى بلدهم «فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ»، أى ذهب إليها مسرعًا مستخفيًا، فوجدها فى بهو عظيم، وقد وضعوا بين أيديها أنواعًا من الأطعمة قربانًا إليها، فقال لها على سبيل التهكم والازدراء: «أَلا تَأْكُلُونَ، مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ، فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبا بِالْيَمِين»، أى أنه انهال عليهم بيده اليمنى لأنها حسب التفاسير أقوى وأبطش وأسرع وأقهر، فكسرها بفأس أو قَدُوم فى يده، كما قال تعالى: «فجَعَلَهُمْ جُذَاذا»، أى حطاما، كسرها كلها «إِلا كَبِيرا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ».
قيل إنه وضع القَدُوم أو الفأس فى يد الكبير، فلمّا رجعوا من عيدهم ووجدوا ما حل بمعبودهم «قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ»، فردّ بعضهم على بعض «قَالُوا سَمِعْنَا فَتى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ»، أى يذكرها بالعيب والتنقُّص لها والازدراء بها، فهو المقيم عليها والكاسر لها «قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ»، أى فى الملأ الأكبر على رؤوس الأشهاد، لعلهم يسمعون شهادته وأقواله وهو ما ينبئ -على الرغم من عتوِّهم وطغيانهم- عن رغبة فى التحقيق فى الأمر والتحقُّق من اتهام إبراهيم، وهى حالة توضح كذلك أنهم فى حالة نفسية من هول عدم التصديق أن يفعل فتى بإلههم هذه الفعلة الجريئة والمستهزئة بهم وبه!