الوجه المضىء لنجيب محفوظ ككاتب روائى يخفى تحته وجها متوهجا آخر ربما كان أقل حضورا عند الجمهور لكنه كان ثريا ومبدعا وخصبا، بل رائد.. إنه الكاتب الدرامى نجيب محفوظ الذى منح السينما وهى لا تزال فى بدايتها العديد من إبداعاته.. لم يقصد محفوظ أن ينافس كتاب السيناريو ورغم ذلك وطبقا لاستفتاء رسمى تم إجراؤه قبل سبعة عشر عاما احتل مكانة ثانى أهم كاتب سيناريو للسينما المصرية طوال تاريخها -بعد على الزرقانى- رغم أن السيناريوهات التى كتبها مباشرة للسينما أو شارك فيها لم تتجاوز 24 سيناريو. لا أتحدث عن روايات نجيب محفوظ التى قدمتها الشاشة وعددها 32، وهو ما صعد به طبقا لنفس الاستفتاء إلى المرتبة الأولى بين كل الروائيين مثل «بين القصرين»، «قصر الشوق»، «السكرية»، «زقاق المدق»، «بداية ونهاية»، «الطريق»، «السمان والخريف» وغيرها.. أنا أتناول هنا الأعمال التى كتبها مباشرة للسينما أو تلك التى كتب لها السيناريو عن روايات مثل «إمبراطورية ميم»، «بئر الحرمان»، «أنا حرة»، «الطريق المسدود» لإحسان عبد القدوس.. أما الإبداع السينمائى الذى قدمه مباشرة للسينما فى الأفلام التى وضع لها حجر الأساس من خلال القصة السينمائية أو المعالجة الدرامية مثل «ريا وسكينة»، «بين السماء والأرض»، «الوحش»، «الفتوة» لصلاح أبو سيف.. كما أنه كتب للمخرج عاطف سالم فيلمه الشهير «جعلونى مجرما»، وشارك فى كتابة «الناصر صلاح الدين» و«جميلة» ليوسف شاهين.. وكان صلاح أبو سيف يقول إنه عندما قرأ أول روايات نجيب محفوظ «عبث الأقدار» و«رادوبيس» و«كفاح طيبة».. اكتشف أنه يفكر بالصورة، ولهذا أقنعه فى منتصف الأربعينيات بأن يكتب مباشرة للسينما، ووافق بعد تردد ومنحته السينما انتشارا ما كان من الممكن أن يحظى به لو أنه اكتفى فقط بقراء الرواية.. فى أى لحظة لو تنقلت بين الفضائيات لشاهدت شيئا لنجيب محفوظ رواية أو سيناريو.. المشاهدون -ربما أغلبهم- لم يقرأ ثلاثية نجيب محفوظ ولم يعرفوا «سى السيد عبد الجواد» إلا من خلال الدور الذى لعبه يحيى شاهين وأخرجه فى فيلم «بين القصرين» لحسن الإمام فى مطلع الستينيات! ورغم ذلك فإن نجيب محفوظ لم يرض عن أغلب أعماله السينمائية، أقصد الروايات التى قدمتها السينما عن أعماله الروائية.. أقرب فيلمين إليه هما «بداية ونهاية» صلاح أبو سيف، «وخان الخليلى» عاطف سالم.. الكاتب الكبير كان يحرص على أن لا يقحم نفسه فى صراع مع السينمائيين ويقول دائما لمن يتساءل عن العلاقة بين روايته الأدبية وما عرض على الشاشة بأن مسؤوليته لا تتجاوز فقط الكتاب المنشور، ومن يُرد أن يحاسبه فعليه أن يعود إلى الرواية الأصلية، أما الفيلم فإنه مسؤولية المخرج.. وظل هذا هو مبدأه الذى لا يحيد عنه ولم يعترض سوى مرة واحدة قبل عشرين عاما على فيلم «نور العيون» إخراج «حسين كمال» المأخوذ عن قصة قصيرة فى مجموعة «خمارة القط الأسود». فيفى عبده كانت البطلة، وفى نفس الوقت منتجة الفيلم من الباطن، وخضع الجميع لها، ولهذا ضاعت كل معالم قصته الروائية، وخرج على غير عادته عن صمته، وقال لأول وآخر مرة إنى أعترض وأتذكر فى حوار لى معه نشرتُه على صفحات مجلة «روزاليوسف» أنه قال ساخرا «أنا بس خايف الناس تقوللى إيه اللى لمك يا نجيب يا محفوظ على الراقصة دى»! حكاية نجيب محفوظ والسينما شهدت وجها ثالثا وهو الموظف نجيب محفوظ، حيث كان رئيسا للرقابة عام 1959، ثم رئيسا لمؤسسة السينما فى مطلع الستينيات.. تميّز الرقيب نجيب محفوظ بانحياز مطلق للحرية، وكثيرا ما اضطر إلى أن يبيح على مسؤوليته ما يعترض عليه الرقباء، وهكذا مثلا طلب أحد الرقباء حذف أغنية «يا مصطفى يا مصطفى أنا بحبك يا مصطفى» من تلحين محمد فوزى وغناء بوب عزام، وبعد أن شعر بالخطر فى المقطع الذى يقول «سبع سنين فى العطارين وانت حبيبى يا مصطفى»، الأغنية أذيعت بعد ثورة 23 يوليو بسبع سنوات، فكتب الرقيب فى التقرير أن المقصود بنداء «أنا بحبك يا مصطفى» هو إعلان الحب والولاء للزعيم الوفدى مصطفى النحاس ضد جمال عبد الناصر.