(1) فى يوليو عام 1938.. يحكى أن جمهورية قراء القرآن الكريم عقدوا اجتماعا وخرجوا بشكوى طولها متران وعرضها متر.. كان مفادها الاعتراض على تقديم الشيخ محمد رفعت فى الإذاعة مسبوقا بكلمة الأستاذ.. وسجلوا اعتراضهم على تسميته هو وحده فقط -الأستاذ الشيخ محمد رفعت- وقالوا فى شكواهم: إن كلمة الأستاذ تخرج من شفاه المذيع جميلة كقبلة الحسناء. وبناء عليه طلب الشيخ رفعت أن لا يقدم فى الإذاعة بهذا اللقب، حتى لا يضايق زملاءه.. وبالفعل أجابوا طلبه.. بعدها بفترة احتج المشايخ أنفسهم على أجر محمد رفعت، وعلى كونه أكثر من أجرهم المعتاد.. وطالبوا بمساواتهم به، وكانت سماحة الشيخ رفعت رائعة، حيث وقف إلى جانب المشايخ فى طلبهم هذا.. لكن إدارة الإذاعة لم تستجب له أو لهم، فأعلن شيخنا أنه سيترك الإذاعة، وأنه لن يعود لها أبدا إزاء هذا التعنت. ولم تهتم الإدارة بهذا القرار الذى نفذه الشيخ رفعت بالفعل، لكنها فوجئت بسيل من التذمر والغضب من قبل الشعب، احتجاجا على توقف محمد رفعت عن التلاوة فى الإذاعة.. ولم تتحرك إدارة الإذاعة إلا عندما وصلتها رسالة موقعة باسم أقباط مصر، يعلنون فيها احتجاجهم على توقف الشيخ، ويهددون بمقاطعة الإذاعة، فأدرك المسؤولون حجم الغضب ووافقوا على طلب الشيخ رفعت، فقبل العودة إلى الإذاعة. وأذيع خبر عودته فى جميع الصحف، وجميع نشرات الأخبار، والفترات الإذاعية بنص واحد.. «الإذاعة المصرية تهنئكم بعودة الشيخ رفعت لتقديم تلاوة مباركة لما تيسر من آيات الذكر الحكيم فى نفس المواعيد الثابتة، بدءا من الأسبوع المقبل». وفى أثناء الحرب العالمية الثانية كان الشيخ رفعت قد أصبح أسطورة.. وذات مساء من عام 1940 دخل قائد الجيش الكندى على مدير الإذاعة وطلب مقابلة الشيخ رفعت.. فسأله المدير: هل أعجبك صوته أم أنك وجدت فيه شيئا غريبا؟! فقال له الضابط: «لقد وجدت الله فى صوت الشيخ رفعت، وقد جئت لأشهده على إسلامى». (2) لم يكن للشيخ رفعت بالإذاعة سوى تسجيلين بدائيين على أسطوانات الشمع. كان ممكنا أن يسجل شيخنا القرآن كاملا فى الإذاعة، لولا حدوث نوع من سوء الفهم على يد الشاعر والصحفى أبو بثينة، فقد كان أبو بثينة وسيطا بين الإذاعة البريطانية «B.B.C» والإذاعة المصرية من جهة، والشيخ محمد رفعت من جهة أخرى، ليسجل شيخنا القرآن بأكمله ويصبح حق الانتفاع به للإذاعة.. وذهب إلى الشيخ رفعت، الذى لم يبد معارضة وطلب أجرا معينا كنوع من الضمان لمستقبل أولاده، وطلب مقابل تسجيل الشريط -ومدته ساعة- مئة جنيه، ومقابل الاستخدام مئة جنيه أخرى، ومقابل الانتفاع خمسة جنيهات.. لتسجيل عشرة شرائط فقط، أى أن المقابل الذى سيتم دفعه 2000 جنيه.. وبالفعل أرسل الشيخ إلى الإذاعة البريطانية فى لندن شريطين، الأول يحمل تسجيلا لسورة «آل عمران» والآخر لسورة «مريم»، لكن أبو بثينة أرسل إلى مدير الإذاعة البريطانية رقما خاطئا، فقد أخطأ فى حساب المبلغ المطلوب وأرسل لهم ما يفيد أن الشيخ يطلب أكثر من عشرين ألف جنيه، وبالطبع رفضت الإذاعة البريطانية هذا الرقم الخرافى. أما الإذاعة المصرية فلم تكن لتقوم بالتسجيلات، لأنها كانت تمتلك عشرين شريطا من نوع ماركونى -وهو نوع ثقيل جدا لا يحمله أقل من أربعة أشخاص- كانت الإذاعة تسجل على الشريط مرة واحدة، ثم تقوم بمسحه -بعد إذاعته- لتسجل مادة جديدة. وكان سهلا للغاية أن يضيع صوت الشيخ رفعت إلى الأبد، لولا بعض محبيه الذين كانوا يحتفظون ببعض تسجيلاته بالصدفة البحتة.. وأولهم زكريا باشا مهران، عضو مجلس الشيوخ.. وكان من عشاق الشيخ رفعت وواحدا من ضمن قلائل يمتلكون جهاز تسجيل الأسطوانات.. وكانت مدة الأسطوانة فى هذا الوقت دقيقتين و45 ثانية، فكان يقوم بالتسجيل بواسطة جهازين، حتى لا يضيع أى شىء من تلاوة الشيخ رفعت. ولك أن تعلم كم من الجهد تكبده زكريا باشا مهران لتسجيل ما يقرب من 95٪ من تراث الشيخ. وبعد مرض الشيخ ذهب زكريا باشا إلى الإذاعة وأعطاهم نموذجا للتسجيلات، وعرض عليهم شراء المجموعة كاملة، على أن يخصص ثمنها للشيخ رفعت، وطالبهم فى مقابل ذلك بأجر أم كلثوم، وكانت تتقاضى 35 جنيها فى الساعة، لكن مسؤولى الإذاعة رفضوا.. لتظل التسجيلات فى حوزة زكريا باشا، ولم يعرف أحد بالأمر إلا أولاد الشيخ رفعت بعد وفاة زكريا باشا، عندما أبلغتهم زوجته بأنها بصدد الانتقال لشقة جديدة، ولديها «ضمن العفش» تسجيلات تعتقد أنها للشيخ رفعت، وبالفعل توجه أولاده وحصلوا على هذه التسجيلات.. فى الوقت نفسه استشعرت الإذاعة خطورة ضياع صوت الشيخ وأعلنت عن مكافأة مئة جنيه لمن يقدم أسطوانة تحمل تسجيلا لشيخنا. واستطاع محبو الشيخ أن يجمعوا 278 أسطوانة تضم 19 سورة مدتها 21 ساعة، وأعادوا تسجيلها وقدمت للإذاعة فى مطلع الستينيات. وفى سبيل أن تقدم الإذاعة هذه التسجيلات بأدق شكل ممكن تمت الاستعانة بالشيخ أبو العينين شعيشع، الذى فجر منذ سنوات مفاجأة.. حيث اعترف بأن الشرائط التى تذيعها الإذاعة كانت بها أجزاء ناقصة.. وأن الإذاعة اضطرت لإكمالها بصوته.. وقال: إنه فعل ذلك فى نحو خمسة أو ستة أشرطة من أفضل تسجيلات الشيخ رفعت وهذا النقص راجع إلى أن الهواة الذين كانوا يسجلون للشيخ كانت تسقط منهم بعض الآيات عندما يقلبون وجه الأسطوانة، فاستدعاه أمين حماد مدير الإذاعة وقتها، وطلب منه ضرورة استكمالها.. فرحب شعيشع بالفكرة، وهو واحد من أشهر تلاميذ الشيخ رفعت، وكان أشهر من قام بتقليده. (3) عندما أصيب شيخنا ب«الزغطة» نتيجة المرض الخبيث الذى داهم حنجرته وأدى إلى احتباس صوته.. دعا الكاتب الصحفى الكبير أحمد الصاوى إلى اكتتاب شعبى لعلاج الشيخ رفعت.. وانهالت التبرعات من مختلف أنحاء العالم الإسلامى، وبلغت 50 ألف جنيه، رفضها الشيخ رفعت وقال: «أراد الله أن يمنعنى ولا راد لقضائه». وكان قضاء الله أن يتوفى الشيخ رفعت بعدها فى فجر أحد أيام رمضان 1950. بعد وفاته فوجئ أبناؤه بأنه يمتلك خزينة خاصة فى بنك مصر، وعندما فتحوها لم يجدوا بها سوى ساعة يد وروشتة طبيب ومصحف.