تمثل «مملكة التلاوة» بالنسبة لى عالم الطفولة، بل سنوات الصبا الباكر، فقد أورثنى أبى حب الاستماع إلى المقرئين، وكنت ولاأزال أميز بين أصواتهم فوراً، فأعرف من هو «مصطفى إسماعيل»، و«عبدالباسط عبدالصمد»، و«محمود على البنا»، و«عبدالرحمن الدروى»، و«منصور الشامى الدمنهورى»، و«عبدالعظيم زاهر»، و«عبدالفتاح الشعشاعى»، و«محمود عبدالحكم»، و«محمد الصيفى»، وغيرهم عشرات آخرون استمتعت بتلاوتهم، حتى إننى كنت أضع شرائط الكاسيت فى سيارتى وأنا أتجول فى العاصمة البريطانية ذهابا وإياباً إلى جامعة لندن ومنها، فيرتفع صوت القرآن الكريم وسط الضباب وفى أجواء لا تمت لذلك الدين ولا لتلك الثقافة بصلة ما، أما «قيثارة السماء» الشيخ «محمد رفعت» وأنا هنا أستعير التعبير من الكاتب الكبير «محمود السعدنى»، الذى حرمنا مرضه من جلساته الرائعة وثقافته الواسعة وروحه الساخرة، وهو بالمناسبة معنى بمملكة التلاوة وله فيها كتابات رائعة، فهو صوت ملائكى عشقه المسلمون بل المسيحيون أيضاً، خصوصاً عندما يتسلل صوته إلى الأعماق وهو يتلو سورة «آل عمران»، ونصل الآن إلى شيخنا الجليل «أبو العينين شعيشع» الذى يعتبر صوته امتداداً للشيخ الضرير محمد رفعت حتى إنه استكمل تسجيلاته الناقصة، التى كان يسجلها له «زكريا مهران» باشا من أعيان صعيد مصر، وتربطنى بالشيخ «أبوالعينين شعيشع» صلة قوية بدأت منذ سنوات طويلة فقد كان يعرف أبى رحمه الله، وامتدت صلتى به تعلقاً بصوته الشجى وشخصيته المستنيرة، ولقد هاتفنى فى مطلع شهر رمضان العام الماضى، ليقول لى إنه قرر الاعتذار عن عدم الذهاب إلى «طهران»، بسبب الظروف السياسية، وكدت أقترح عليه أن هناك عذراً أوضح يا مولاى، فأنت تخطو نحو التسعين أطال الله فى عمرك، ونفع بك الإسلام وأسعد المسلمين، وكثيراً ما التقيته فى العيد القومى الإيرانى لا يتحدث فى غير الدين، ولا يهتم إلا بكتاب الله سبحانه وتعالى فالرجل عربى قومى، ومصرى وطنى، يسر الله له الرزق منذ مطلع شبابه، فكان يملك أرضاً زراعية تجاور قريتنا فى محافظة البحيرة، وكان يختلف عن بقية القراء فى أنه يلبس طربوشاً دون عمامة، وقد ظل كذلك لعشرات السنين حتى وضع العمامة على رأسه الشريف كرمز لرجال الدين الإسلامى علماء وقراء ودعاة، ومازلت أذكر ذلك النزاع التى احتدم بين الشيخ «أبوالعينين شعيشع» والشيخ «محمد الطبلاوى» وهو صديق عزيز جمعتنى به أيام زار فيها العاصمة الهندية، وهو يملك ماكينة صوتية تصدح بكتاب الله فتشعر أنها تخرج من أعماق الريف المصرى، وكيف كان صعباً على المرء أن يتخذ موقفاً ضد أى منهما، وهما ممن يتلون كتاب الله تعالى، وإذا كنا نتحدث اليوم عن واحد من أقطاب تلاوة الذكر الحكيم، فإن ذاكرتى مازالت تحتفظ بزيارة للشيخ الراحل «عبدالباسط عبدالصمد» إلى العاصمة الهندية فى نهاية السبعينيات من القرن الماضى، عندما كنت مستشاراً للسفارة المصرية هناك، ورافقته إلى احتفال شعبى فى «دلهى القديمة»، حيث ضم الميدان الضخم ما لا يقل عن مليون مستمع من مسلمى الهند والدول المجاورة، وكان بحر البشر يبدو أمامى كالنقاط السوداء، وظل الشيخ العظيم الذى كان يطلق عليه «عبدالباسط براندو» لوسامته وأناقته حتى إن بعض النساء أسلمن على صوته، ورأيت الهنود يصرخون مع تلاوته لآيات الذكر الحكيم، وأنا أجلس إلى جواره خاشعاً أتأمل حتى قاطعه بعضهم بتقديم هدية هى نمر ضخم محنط جرى صيده حديثاً فهمس الشيخ فى أذنى (هل هذه هدية قيمة؟) قلت له (نعم بالتأكيد) فوجدته يقول (الله أكبر بسم الله الرحمن الرحيم) ويبدأ فى تلاوة سورة جديدة والناس يفزعون معه فى حالة وجد واستغراق جماعى لم أر لها مثيلاً، وأعود مرة أخرى إلى شيخنا الجليل «أبوالعينين شعيشع» لأشير إلى فرادة صوته وتميزه عن بقية قراء كتاب الله حتى يخيل إليك أن الكلمات تخرج من أحشائه وتمر بوجدانه فتعصر قلبه فيبدو صوته ملائكى النغمة، سماوى النزعة تنتشى به القلوب وتسمو معه الأرواح، فتحية إلى شيخنا أمد الله فى عمره لكى يظل شيخاً للقراء فى بلد كان ولايزال مصدراً لعباقرة التلاوة وأئمة الدعوة وحفظة القرآن الكريم.