لم تمنعه قراءة القرآن من ارتداء أفخر الثياب ووضع أرقى العطور واقتناء السيارات الفارهة وارتياد الفنادق الشهيرة، وكان يرى أن قارئ القرآن يجب أن يهتم بمظهره أكثر من أى شخص آخر، وربما لهذا قالوا عنه: «الشيخ مارلون براندو» وهو اللقب الذى لازم فضيلة الشيخ عبدالباسط عبدالصمد فى رحلته منذ أن ذاع صيته وانتشرت شهرته وهو فى الثامنة عشرة من عمره وحتى رحيله إثر أزمة صحية راودته سافر خلالها إلى لندن للعلاج لكنه توفى عن عمر يناهز الستين عامًا عام1988. ورغم أن الشيخ عبدالباسط- رحمه الله- كان يتضايق كثيرًا عندما يطلق عليه هذا اللقب - لأنه اسم ممثل أجنبى غير مسلم - إلا أنه ظل ملتصقًا به لاهتمامه الشديد بوسامته وأناقته. وكان - رحمه الله - يتعمد العمل على تغيير تلك الفكرة المأخوذة عن قراء القرآن الكريم وهى عدم الاهتمام بمظهرهم وضعف مستواهم الاجتماعى، وانتظارهم لصينية الفتة باللحمة فى نهاية الليلة، فكان دائمًا ما يتناول وجبتى الغداء والعشاء فى الهيلتون أو الشيراتون.. وعندما سافر إلى فرنسا هو وأخوه الأكبر محمود ليقرأ القرآن على مسرح الأماندييه بباريس ونزل فى مطار شارل ديجول لاحظ أن الناس تنظر إلى الزى الأزهرى باستغراب شديد، فشعر بالحرج وقال لأخيه: لابد من شراء البدل حتى لا نصبح فرجة للناس هنا. كان- رحمه الله- أكثر قارئ أطلق عليه ألقاب ففى بداية حياته اشتهر بلقب «معبود النساء» لما حباه به الله من جمال فى الصوت وفى الشكل، فكانت النساء فى الليالى تقوم بعمل فاتحة صغيرة فى الصوان لتسرق من خلالها النظر إلى وجهه! أما أشهر لقب وأفضلهم عند الشيخ عبدالباسط فهو لقب «قارئ مكة» لأنه أول من قرأ فى الحرم المكى والحرم النبوى عندما سافر لأداء فريضة الحج بالباخرة مع والده فى أوائل الخمسينيات. نشأ فضيلة الشيخ عبدالباسط - رحمه الله - فى مدينة أرمنت بمحافظة قنا، والتحق بالكُتَّاب منذ الصغر وحفظ القرآن الكريم وأتمه وهو لم يبلغ السابعة من عمره على يد الشيخ «الأمير» -شيخ الكتاب - الذى تنبأ له بمستقبل باهر فى مجال القراءة، فنصح والده الشيخ محمد عبدالصمد ألا يلتحق ابنه عبدالباسط بالتعليم الأزهرى مثل أخويه محمود وعبدالحميد وأن يتفرغ للقرآن الكريم، فوهبه والده للقرآن وأرسله إلى أسوان ليتم حفظ القرآن الكريم بالقراءات المختلفة على يد الشيخ محمد سليم، الذى أعجب به ووجد فيه نبوغًا مبكرًا فعمل على إبرازه وتنميته وبدأ يصطحبه معه فى الحفلات والليالى التى يدعى إليها ويدعوه للقراءة والتلاوة ويشجعه عليها.. وكان عبدالباسط لم يتجاوز الرابعة عشرة بعد ولكن سرعان ما اشتهر فى أنحاء الصعيد وانهالت عليه الدعوات من كل المدن والقرى. وكان من عادات أهل الصعيد الذهاب إلى مصر للاحتفال بموالد أولياء الله الصالحين وجاء موعد مولد السيدة زينب- رضى الله عنها- وأصر أحد أقارب الشيخ عبدالباسط أن يأخذه معه إلى القاهرة ليحضر مولد السيدة زينب، وفى عام 1951 دخل الشيخ مسجد السيدة زينب لأول مرة ووجد احتفالاً كبيرًا ورآه إمام المسجد الشيخ «على سبيع» فعرفه وطلب منه أن يقرأ لمدة عشر دقائق.. وتردد الشيخ وكاد أن يعتذر فكيف سيقرأ وسط هؤلاء العمالقة؟ لولا أن الشيخ سبيع قال له لقد سمعتك فى الصعيد وأريد أن يسمعك الناس هنا فى القاهرة، فبدأ الشيخ عبدالباسط فى التلاوة وسط جموع غفيرة وكانت التلاوة من سورة الأحزاب: «إن الله وملائكته يصلون على النبى يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما»، فعم الصمت أرجاء المسجد واتجهت الأنظار إلى القارئ الصغير وبدلاً من القراءة عشر دقائق امتدت لأكثر من ساعة ونصف. منذ ذلك الحين سطع اسم الشيخ وأصبح يحصل على عشرين جنيهًا أجرًا لليلة الواحدة وما هى إلا سنة واحدة حتى تقدم إلى الإذاعة عام 1951 وتشكلت لجنة من كبار العلماء ضمت الشيخ الطباع شيخ عموم المقارئ المصرية والشيخ محمود شلتوت قبل أن يتولى مشيخة الأزهر والشيخ محمد البنا.. وقد أجازته اللجنة فورًا واعتمدته قارئاً فى الإذاعة وذاع صيته مع أول قراءة له فى الراديو وصار له وقت محدد مساء كل يوم سبت تذاع قراءته عبر الأثير. الشيخ عبدالباسط تزوج وهو فى التاسعة عشرة من عمره من ابنة عمه الحاجة رسمية وكانت فى السابعة عشرة آنذاك، وكانت كأى امرأة تشعر بالغيرة على زوجها من شدة إعجاب النساء به، لكنها مع الوقت تفهمت عمل زوجها وساندته فى حياته وأنجبت له أحد عشر كوكبا - كما كان يحب أن يطلق عليهم - أربعاً من الإناث وسبعة من الذكور، جميعهم يحفظون القرآن الكريم حفظاً كاملاً بالتجويد، لكن لم يعمل فى مجال القراءة سوى اثنين فقط من الأبناء وهم الشيخ طارق عبدالباسط رغم أنه عميد شرطة فى التنظيم والإدارة بوزارة الداخلية والشيخ ياسر عبدالباسط الذى تفرغ لقراءة القرآن الكريم، التقينا الشيخ طارق وسألناه: كيف كانت بداية حياتك مع قراءة القرآن؟ ولماذا لم تتفرغ لها واتجهت إلى كلية الشرطة..؟ أنا وأخوتى تأثرنا بالبيئة التى نعيش فيها فمنذ الصغر ونحن نستمع إلى القرآن ليلاً ونهاراً ونذهب مع الوالد إلى المسجد فى الاحتفالات والليالى.. وعندما وجد والدنا الرغبة لدينا فى حفظ القرآن وتلاوته أحضر لنا الشيخ عطا بالمنزل لكى يحفظنا القرآن فى الصيف مثلما فعل معه والده. ورغم الاختلاف فى أن والدى حفظ القرآن فى كتاب الصعيد ونحن هنا فى القاهرة إلا أن الشيخ عطا استطاع أن يجعل المنزل مثل الكتاب، فأحضر اللوح والحبر وأخذ يعلمنا بنفس أسلوب الكتاتيب فى الصعيد، وكان أكبرنا لا يتجاوز الرابعة من عمره وظل معنا إلى أن أتممنا حفظ القرآن الكريم على يديه. ألم يمنعك والدك الشيخ عبدالباسط من الالتحاق بكلية الشرطة خاصة وقد لاحظ ميولك لقراءة القرآن الكريم؟ لا فالوالد رحمه الله كان يترك لنا مطلق الحرية فى اختيار التعليم الذى نريده وكانت المشايخ تقول له لماذا لم تعلم أولادك فى الأزهر ياشيخ عبدالباسط؟ فيقول أنا لا أفرض شيئاً على أحد.. ورغم أنى حصلت على ليسانس حقوق من كلية الشرطة جامعة عين شمس إلا أنى التحقت بعد ذلك بمعهد القراءات فى الأزهر ودرست فيه لمدة سنتين وحصلت على إجازة التجويد. وبعد ذلك تقدمت لعضوية نقابة القراء وسجلت القرآن الكريم فى قناة «المجد» السعودية وقرأته أيضاً برواية قالون عن نافع المدنى وهى التى يقرأ بها فى دول شمال أفريقيا والجزائر وتونس وليبيا. أنت قارئ شاب ما الفارق بين جيلك والجيل القديم؟ جيل الوالد لا يعوض فهو جيل نحت فى الصخر وتعب وشقى إلى أن وصلوا لتلك الأسماء والشعبية على مستوى العالم كله، وأصبح لكل منهم مدرسة مستقلة به، لكن فى الوقت الحالى مع احترامى للجيل الجديد كلهم متشابهون ومقلدون ولم يأت أى منهم بالجديد وساعدتهم الفضائيات فى الانتشار فلم يتعبوا وكما ظهروا سريعاً يختفون سريعاً. وتدخل فى الحديث عصام أخوه وقال: هذا الذى يقوله طارق ليس فى مجال القرآن فقط لكنه فى جميع المجالات الفن والموسيقى والتمثيل والقرآن، فالآن نجد أن الميديا هى المسيطرة ونجد اسماً قد لمع فجأة وأصبح فى السماء ولا يمر سوى فترة وجيزة إلا ونزل ويصبح بلا وجود. وعصام عبدالباسط حفظ القرآن الكريم كاملاً لكنه لم يعمل فى مجال القراءة فليست لديه الرغبة أو الاستعداد لكى يكون مقرئاً ويستهويه السمع أكثر من الأداء.. سألته: هل تحب أن تستمع إلى القرآن الكريم بصوت أخويك الشيخ طارق والشيخ ياسر أم بصوت والدك الشيخ عبدالباسط؟ - إذا كان عندى الأصل لماذا أستمع إلى الصورة؟.. أنا أجد نفسى تلقائيا عندما أريد سماع القرآن يدى تمتد إلى شرائط القراء القدامى الشيخ عبدالباسط أو الشيخ مصطفى إسماعيل أو غيرهما بالرغم من أن إخوتى قراء وممكن أسمعهم صوتا حيا لكن أفضل الأصل، وعموماً هى مسألة أذواق تختلف من شخص لآخر. وأسأل الشيخ طارق عبدالباسط.. هل تقرأ القرآن وأنت ترتدى البدلة على اعتبار أنك من قراء الجيل الجديد؟ - أنا أقرأ بالبدلة هنا فى القاهرة فقط لكنى عندما أسافر إلى دول أوروبا وأمريكا أرتدى الزى الأزهرى لأن هناك ارتباطا فى أذهانهم ما بين قارئ القرآن وبين الأزهر وكل مهنة لها زى خاص بها أما أخى ياسر الأصغر فهو يرتدى العمة والكاكولا أثناء القراءة. ياسر عبدالباسط هو أصغر أولاد الشيخ عبدالباسط حفظ القرآن وكان يفتتح طابور الصباح فى مدرسته الابتدائية وفى الحفلات المدرسية بآيات الذكر تخرج فى كلية الآداب لغات شرقية وعمل فترة وجيزة فى مجال السياحة إلا أن شغفه وحبه للقرآن جعله يتفرغ للتلاوة. إلا أن لجنة الاختبارات فى الإذاعة رفضته عدة مرات.. سألته: هل رفضتك لجنة الاختبارات فى الإذاعة لأنك تقلد الوالد؟ - أنا لا أقلد الوالد إنما أنا امتداد له وبحكم الوراثة والجينات ورثت شيئا من صوت أبى، ولكنى أطور القراءة حسب صوتى وحسب الإمكانات المتاحة لى وأحاول أن أضيف شيئا جديدا، وأضع «بصمة» خاصة بى، وهناك عائلات بأكملها تتوارث القراءة مثل عائلة المنشاوى. هل القراء الجدد مقلدون؟ - نعم أغلبهم مقلدون فلا يوجد قارئ جديد له مدرسة مستقلة ولا يعملون على تطوير أنفسهم، عكس القراء القدامى فلو استمعت للوالد وهو يقرأ تجدين قراءته فى الخمسينيات والستينيات مختلفة عن السبعينيات والثمانينيات فهو كان يعمل دائما على تطوير نفسه. رفضتك لجنة الاختبارات فى الإذاعة أكثر من مرة ألم تفكر فى الاتجاه إلى الغناء؟ - لا لم أفكر رغم أنى أحب الغناء وكنت أشارك فى كورال المدرسة بالابتدائى والإعدادى وأغنى أناشيد وطنية، وقد شجعتنى مدرسة الموسيق واختارتنى للغناء «سولو» للمجموعة كلها وأنا أستمع كثيراً إلى أغانى أم كلثوم وفيروز ونادراً يكون هناك أغنية لا أعرفها خاصة أغنية «نسم علينا الهوى لفيروز» فهى تذكرنى بزوجتى قبل أن أرتبط بها. وكم يتقاضى القراء الجدد اليوم..؟ - الأتعاب تختلف من شخص لآخر حسب ظروف كل إنسان وقدرته المادية فالأتعاب تبدأ من «مائة جنيه» وتصل إلى «عشرة آلاف» جنيه. هل يلجأ بعض حافظى القرآن الكريم اليوم لمهنة القراءة لأنها تدر ربحاً كبيراً..؟ - ليس البعض وإنما الأغلبية فلقد اختلط الحابل بالنابل والقارئ المحترف بالقارئ الذى يحفظ عدداً بسيطاً من الآيات ويقرأها فى كل مكان علاوة على دخول «السمسرة» فى هذه المهنة من أصحاب الفراشات ومديرى القاعات حيث يقومون بالاتفاق مع قارئ معين ويدفعون له أتعاباً قليلة وفى نفس الوقت يحاسبون أصحاب العزاء بأضعاف مضاعفة فأصحاب القاعات والفراشات يعملون «سماسرة قراء». هل كان للوالد هوايات أخرى وماذا تتذكر عنه فى صباك؟ - رغم أن القرآن كان يحتل كل وقته وكانت رحلاته وسفرياته مع القرآن الكريم إلا أنه لابد أن يسافر إلى الإسكندرية شهرى 8,7 للاستجمام فى فيللا بسان استيفانو وكان يقوم بإلغاء جميع الارتباطات فى ذلك الوقت لأنه يشعر بسعادة بالغة عندما يتواجد وسط أهله وزوجته وأولاده وكان يهوى السباحة والمشى والاستماع إلى الموسيقى الهادئة وكان يشعر بالارتياح والسعادة عندما يستمع إلى أغانى عبدالوهاب وأم كلثوم. وأتذكر وأنا صغير أنه كان يلاعبنى البينج بونج ويلاعبنى الكوتشينة ويتركنى أتغلب عليه. ما أهم التكريمات التى حصل عليها الشيخ عبدالباسط؟ - والدى كانت تستقبله دول العالم استقبالاً رسمياً على المستوى القيادى والحكومى والشعبى حيث استقبله - رحمه الله - الرئيس الباكستانى من أرض المطار وصافحه وهو ينزل من الطائرة وفى جاكرتا بدولة أندونيسيا قرأ القرآن بأكبر مساجدها. ومن أهم الأوسمة والنياشين التى حصل عليها: وسام الكفاءة الفكرية المغربى، وسام الاستحقاق السنغالى، وسامان من رئيس وزراء سوريا صبرى العسلى عام 1959، وسام ماليزيا الذهبى، وسام الاستحقاق من أندونيسيا - وسام الإذاعة المصرية فى عيدها الخمسين عام 1984 - الوسام الذهبى من باكستان عام 1985 نياشين من تونس ولبنان والعراق - وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى وتسلمه من الرئيس مبارك فى عيد العلم عام 1987 وسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى فى الاحتفال بليلة القدر عام 1990.