تصلح الخضراوات كلها للتجميد، وحدها الملوخية التى تصلح للتنشيف. التجميد يفقد الخضراوات زهوتها عند الطبخ كأنك نزعت هالة الضوء عن رأس قديس. التنشيف يمنح الملوخية رهبة ما لا تقل عن رهبة مدخل معبد الكرنك. لا أحد يعرف قيمة الملوخية سوى الجنوبيين، بل إنهم هم أول من عرفوها، كان الفراعنة يعتقدون أن الملوخية نبات سام فابتعدوا عنه، وعندما سيطر الهكسوس على الحكم أرغموا المصريين على أكلها لإذلالهم وإخافتهم. أكلوها فأحبوها فعبدوها «كان هناك مذهب يقول إن قيمة الإنسان فى الحياة الأخرى يقاس بمقدار ما تناوله من الملوخية»، ثم حرمها الحاكم بأمر الله على الشعب لأنها «ملوكية» لا يتناولها إلا الملك، وهناك من يقول إنه حرمها لأن المصريين كانوا يأكلونها ثم يروحون فى§ أكاد أجزم أن الملوخية هى الطعام الوحيد الذى يسرى فى الدم قبل امتصاصه، هكذا مباشرة من الفم إلى الجهاز الدورى. أشعر بها تسير فى العروق وتمددها، فينساب الدم بنعومة فيحدث الاسترخاء الربانى الذى لا يوفره لك أجود أنواع المخدرات فى العالم، تفقد السيطرة على نفسك تمامًا عندما تشعر بالملوخية تجرى فى عروق رأسك إلى أن تصل إلى الشبكية فتظلم الدنيا من حولك حتى تنسحب الملوخية من دمك تماما فتصحو رائقا. من يتناول الملوخية ويستأنف ما كان يفعله فى أغلب الظن تناول برسيما مطبوخا. الجنوبيون يعتبرونها أكلة مقدسة ويندهشون من هؤلاء الذين يضيفون الجمبرى إلى الملوخية ويرونهم «محدثى نعمة»، ويكرهون الذين يطبخونها بالصلصة ويرون فى ذلك إهدارًا لوقار الأكلة، أما من يضيفون «الطشة» إلى الشوربة وليس للملوخية نفسها فهم «مالهومش فيها»، لأن الطشة تفقدها لونها الذهبى المميز الذى يزين وجه الطبق الأخضر وتتحول إلى أجسام بيضاء لا شخصية لها وتجعل الطبق نموذجا لأكل العيانين، ويرون من يعصر نصف ليمونة على طبق الملوخية شخص ثقيل الدم، بينما لا يلتفتون أصلا إلى الملوخية التى يترسب قوامها فى قاع الحلة ولا إلى الملوخية التى تكتسب قواما أقرب إلى قوام السيريلاك، ولا إلى الملوخية التى لا تعلق بلقمة العيش «ودن القطة» من فرط خفتها، ويعتبرون كل ما فات إهانة لهم إذا ما صادفوه فى عزومة. لقد تعلمتها من جدتى بالمراقبة، تقطيع الأوراق لا بد أن يكون من جذر الورقة وليس عشوائيا، ولا بد أن تتعرض الأوراق للشمس حتى تجف، ثم تخرط على سطح خشن، ويجب أن يتوقف الخرط قبل أن تفرز الأوراق مادة مخاطية تعلق بالمخرطة. أما الثوم فيسحق بخفة بشرط أن لا يتحول إلى عصير، وعند تحميره فى قليل القليل من السمن البلدى لا بد أن يضاف فور اكتسابه اللون الذهبى إلى الحلة مع شهقة ترد الملوخية عليها بواحدة أقوى، ثم كبشة من الملوخية فى الطاسة تحتضن ما علق بها من الثوم الذهبى بعدها يعود المزيج مرة أخرى إلى الحلة. هناك أصول للموضوع، لا يجب طبخ اللحم داخل الملوخية، لا بد أن تراه أمامك محمرا «يا سلام لو فيه حتة ملبسة اكتسب دهنها لونا أصفر»، وكذلك الفراخ التى يحلو جلدها المحمر مع لقمة عيش بلدى ورشفة من سلطانية الملوخية. الله إذا كان إلى جوارها حمام بالفريك فتقطع مؤخرة الحمامة وتصبها بالفريك فى السلطانية ثم تتناول المزيج بالملعقة. البتنجان المخلل يقوى حضور الملوخية على المنضدة، وكلما كان الأرز بالشعرية كلما كان المزيج مؤثرا أكثر من تتر «ليالى الحلمية» «ومنين بيجى الشجن». أما إذا جاور طبق الملوخية طبق محشى فلفل.. من حقك أن تبكى الآن. تصلح زراعة الملوخية فى أى تربة، لكنها تحتاج فقط إلى قدرٍ من الدفء، وهذا حقها فهى الأكلة الوحيدة التى تشع دفئا فى كل البيوت المصرية. رائحتها هى الونس الذى يلمس قلبك وأنت تصعد السلم وتحاول أن تخمن من فى جيرانك «طابخ ملوخية النهارده»، هى التى تقرب بين سكان البيت فى «قعدة التقطيف» وتمنح جاذبية ما لأمهاتنا وهن يضعن الثوم فى حجر جلالبيبهن لتفصيصه، وهى أول طعام للأطفال، بل المفضل لديهم لسنوات طويلة «رز بالملوخية»، وفى جهاز أى بنت مصرية لا توجد أداة يرتبط اسمها بأكلة معينة سوى «مخرطة الملوخية».