لم تصدمني تعليقات من قرأوا مقالي السابق الذي ناشدت فيه الإخوان المسلمين أن يحقنوا دماءنا، برغم أن معظم تلك التعليقات اتهمني فيها أصحابها بالسلبية والخضوع للمجلس العسكري، والاستسلام للنظام البائد العائد، وخيانة الثورة وشهدائها ومصابيها، والتجني على الإخوان وتاريخهم، ووو.. ولم أصدم لأنني أدرك تماما الحالة النفسية شديدة السوء، والكارثة السياسية كالحة السواد، والظروف الحالية شديدة الاضطراب، وحالة الاستقطاب الحادة التي يمر بها الشعب المصري هذه الأيام، وتذكرت الحديث الشريف: عن علي رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ستكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت: يا رسول الله وما المخرج منها، قال كتاب الله تبارك وتعالى فيه نبأ من قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم). يبدو أننا في زمن إحدى هذه القطع المظلمة. واستكمالا لما ذكرته في ذلك المقال الذي أغضب بعض القراء؛ أذكر لك عزيزي بعض المعلومات عن الدكتور نجم الدين أربكان؛ مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة في تركيا، أو المُعلّم؛ كما يطلق عليه تلميذه رجب طيب أردوغان رئيس وزراء تركيا وحاكمها منذ 2003، الدكتور أربكان حصل على الدكتوراه في الهندسة الميكانيكية من ألمانيا عام 1956، أسس عام 1970 حزب (النظام الوطني) الذي يلتقي مع مبادئ حركة الإخوان المسلمين في مصر، أول تنظيم سياسي ذي هوية إسلامية تعرفه الدولة التركية الحديثة منذ زوال الخلافة عام 1924، لم يصمد حزب (النظام الوطني) سوى تسعة أشهر، وتم حله بقرار قضائي من المحكمة الدستورية بعد إنذار من قائد الجيش، فقام أربكان بدعم من التحالف ذاته بتأسيس حزب (السلامة الوطني) عام 1972، وشارك في الانتخابات العامة، وفاز بخمسين مقعدا كانت كافية ليشارك في حكومة ائتلافية مع حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه مصطفى أتاتورك، وفي عام 1980 قام الجيش بانقلاب عسكري حل به الأحزاب وعطل الدستور، وسُجن أربكان لثلاث سنوات، خرج بعدها ليؤسس حزب (الرفاه) وخاض به الانتخابات ليحصل على أقل من 2 ٪ من المقاعد، وواصل جهوده السياسية حتى حصل على أغلبية المقاعد في انتخابات 1996، وترأس الحكومة الائتلافية حتى اضطره الجيش إلى الاستقالة عام 1998، وحُل حزب الرفاه ومنع القضاء المُعلم من ممارسة السياسة لخمس سنوات، فأسس حزب (الفضيلة) في نفس العام، وحلّه الجيش عام 2000، فأسس حزب (السعادة) عام 2003، وقُدم للمحاكمة بتهمة احتقار النظام العلماني، وحُل حزبه وحُكم عليه بالسجن لثلاث سنوات، وكان عمره آنذاك 77 سنة، وتوفي رحمه الله في فبراير 2011.. قال ذات مرة: إذا سألني ربي يوم القيامة، ماذا فعلتم للإسلام ؟ نقدِّم له أحزابنا الخمسة. ونبذة عن تلميذه رئيس وزراء تركيا؛ رجب طيب أردوغان الذي انتمى لحزب أربكان (النظام الوطني) أول السبعينيات، وارتبط بأستاذه حتى رشحه حزب الرفاه لمنصب عمدة اسطنبول، وفاز برئاسة بلدية اسطنبول عام1994، وطور البنية التحتية للمدينة، وأنشأ السدود ومعامل تحلية المياه لتوفير مياه الشرب الصحية لأبناء المدينة، وكذلك قام بتطوير شبكة المواصلات العامة، وقام بتنظيف الخليج الذهبي؛ الذي كان مقلباً للقمامة، وحوّله إلى معلم سياحي كبير، وبمجهودات مضنية مخلصة استطاع أردوغان تحويل مدينة اسطنبول إلى أجمل مدينة في تركيا، واستنقذها من ديونها التي بلغت ملياري دولار؛ إلى أكبر وعاء للاستثمار والربح في المنطقة، بفضل عبقريته ويده النظيفة، وبقربه من الناس؛ لا سيما العمال، فرفع أجورهم وأسس لهم نظاما متطورا للرعاية الصحية والاجتماعية، وفي عام 1998 اتُّهم بالتحريض على الكراهية الدينية حين ألقى خطابا جماهيريا، ذكر فيه بضعة أبيات من الشعر منها: مساجدنا ثكناتنا.. قبابنا خوذاتنا.. مآذننا حرابنا.. المصلون جنودنا.. هذا الجيش المقدس يحرس ديننا.. وحكم عليه بالسجن، وبعد خروجه أسس عام حزب العدالة والتنمية عام 2001 مع زميل كفاحه عبد الله جول؛ رئيس الجمهورية الحالي، وقال أردوغان حين أعلن عن تأسيس الحزب: (إن العدالة والتنمية سيحافظ على أسس النظام الجمهوري، ولن يدخل في مماحكات مع القوات المسلحة التركية، وسنتبع سياسة واضحة ونشطة، من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر، في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها99 ٪ من مواطني تركيا). خاض حزب العدالة والتنمية الانتخابات التشريعية عام 2002 وحصل على363 مقعدا مشكلا بذلك أغلبية ساحقة، وتمكن أردوغان في مارس 2003 من تولي رئاسة الحكومة بعد إسقاط حكم السجن عنه. بعد هذين الموجزين عن حياة الأستاذ والتلميذ، يبقى أن تعرف حضرتك أن الناتج المحلي الإجمالي لتركيا لعام 2010 هو 460 مليار دولار، وترتيبها ال 15 عالميا، أما مصر فالناتج المحلي الإجمالي لعام 2010 هو 79 مليار دولار، وترتيبها ال 111 عالميا. ما عنيته في مقالي السابق هو أننا في هذه المرحلة شديدة الحرج قد قارَبْنا القاع فعلا، ولا نحتاج إلى مزيد من القتلى والمصابين، ولا نحتاج إلى تأجيج الصراع بين القوة السياسية الفاعلة الفعلية في الشارع وهي الإخوان المسلمين؛ وبين حكام البلاد الفعليين وهم المجلس العسكري والمخابرات، لا نحتاج إلى الغباء السياسي الذي نعاين شواهده ونتائجه كل يوم وفي أعقاب كل حدث وبعد كل تآمر، لا نحتاج إلى مليونيات تهدر الملايين وانتخابات تهدر المليارات حين تُلغى نتائجها، لا نحتاج إلى الفرقة والخصام والعداء والانقسام، والخطب الحماسية وتبادل الاتهام، والأغاني والكلام وبرامج الحوار من خلال الإعلام الموجَّه، لا نحتاج لأن نكذب على أنفسنا ستين سنة أخرى، ومددا رئاسية أخرى. كل ما نحتاج إليه هو الإخلاص الذي تمتع به أهل تركيا، وعاينوه في كلٍ من أربكان وأردوغان، والذي ترتب عليه أن أصبحت تركيا من الدول العظمى في خمسة عشر عاما، دون إراقة قطرة دم واحدة، في مليونية أو حتى مظاهرة، ما نحتاجه هو صعود سلم الديمقراطية درجة درجة، حتى لا نقع فتكسر رقبتنا، ما نحتاجه هو التعامل الذكي مع من يملكون القوة المدمرة، ويستطيعون بما لديهم من رصيد الأنانية والحرص على مصالحهم تدمير البلاد والعباد، ما نحتاجه هو أن يتحلى المتصدرون للعملية السياسية بالحنكة والذكاء والتعلم من أخطاء الآخرين؛ فلا يقعون في أفخاخ نصبت لهم بمهارة فائقة، ويقعون ويوقعوننا في براثن مؤامرات؛ ظنناهم فطنوا إليها فخاب ظننا، ما نحتاجه هو أن نربي أنفسنا وأبناءنا وشعبنا علي ثقافة التغيير التدريجي المتناسب مع نسبة الأمية العالية، والجهل المتفشي في مجتمعنا كالسرطان. وللراحل الدكتور طه حسين كلمة عاقلة في هذا الموضوع، ذكرها في كتابه (مستقبل الثقافة في مصر): الديمقراطية لا تتفق مع الجهل إلا أن تقوم على الكذب والخداع، والحياة النيابية لا تتفق مع الجهل إلا أن تكون عبثا وتضليلا، إن الذين يريدون أن تصير أمور الشعب إلى الشعب يريدون بطبيعة الحال أن يُثقَف الشعب حتى يرشُد، وحتى يأخذ أموره بحزم وقوة ويصرفها عن فهم وبصيرة، وحتى يصبح بمأمن من تضليل المضللين وتغفل المتغفلين إياه، لا يستجيب لكل ناعق، ولا ينخدع لكل مخادع، ولا يُتخذ أداة للطامعين، وإرضاءِ شهوات الساسة الذين كثيرا ما يتخذون الشعب الجاهل الغافل مطية إلى كثير من الجرائم والآثام. إسلمي يا مصر.