كان التصويت وفرز الأصوات على الهواء، وخسر المجلس العسكرى الذى وقف خلف شفيق وصدّر للناس المنهكة القوى التى أُضيرت فى أكل عيشها بأن شفيق سوف يعيد الأمن والأمان ويفتح لهم مجددًا أبواب الرزق.. كان هناك فى الأفق نوع من الانحياز الواضح على المستوى الرسمى يوفره المجلس العسكرى والدولة العميقة التى لا تزال تحتل مواقع فى النظام، وسلاح الإعلام فى القسط الأكبر منه لعب لصالح شفيق، وبدأ بالفعل نوعًا من المراهنة المسبقة عليه.. الدولة كانت تريده ولكن عن طريق الصندوق مباشرة، إلا أن هناك بالطبع تخوفًا ما، ولهذا جاء الإعلان الدستورى ليضمن للمؤسسة العسكرية الكلمة العليا فى النظام، ولا يمكن أن يعتقد أن المجلس العسكرى بعد أن شاهد مبارك فى القفص ومتظاهرين يريدون محاكمة المشير والمجلس من الممكن أن يتركوا السلطة بسهولة.. الإعلان الدستورى الذى تم إصداره قبل ساعات من إعلان نتائج الانتخابات أعطى للعسكر قُبلة الحياة حافظ على أن يظل المجلس العسكرى أعلى من الرئيس، ولكن تناسى فروق التوقيت، وهى أن إرادة الشعب أعلى من الاثنين! تفويض حسنى مبارك للمجلس العسكرى بحكم البلاد ووعدهم المتكرر بالعودة إلى ثكناتهم، أكدت التجربة أنها مجرد كلمات فى الهواء.. هم متشبثون بالكرسى وبالبقاء كمؤسسة ليست فقط مستقلة، ولكنها فى مكانة أعلى من الدولة وكأنهم يملكون تفويضًا أبديًّا.. العسكر طموحهم ليس الحكم، ولكنهم يتحكمون فى الحاكم. نعم هو انقلاب ناعم لتتحول دفة القيادة من حسنى مبارك إلى المجلس العسكرى، هناك من خطط وفكر ووجد أن هذا هو الحل ليصبحوا جزءًا أساسيًّا من ملامح مصر السياسية، أن تبنى المؤسسة العسكرية سورًا عاليًا ممنوع الاقتراب منه، وهى صاحبة قرارها، خصوصًا أننا نعيش فى الدولة الرخوة تستطيع القوات المسلحة أن تنتزع لنفسها كل الصلاحيات ولن يوقفها أحد.. غير مسموح أن يأتى من يسأل أو يقلّب فى الأوراق.. مؤسسة أعلى من القانون والدستور ولا يوجد فى أى نظام ديمقراطى من هو فوق المساءلة، لكن العسكريين فرضوا شروطهم فى لحظة فراغ تشريعى ودستورى! العسكريون هل حسبوها؟ هل من الممكن أن يُخضعوا الجميع لقراراتهم، وإذا كان مرسى سيفضل المهادنة حتى يضمن بقاءه على الكرسى، فهل الشعب أيضًا سيهادن العسكر؟ الناس التى هتفت يسقط حكم العسكر كانت قناعتها فى البداية الشعب والجيش إيد واحدة، ولكن بعد أسابيع قليلة من ممارسات المؤسسة العسكرية التى تعلن الزهد فى الحكم فقط من خلال كلمات اكتشف الشعب أن المجلس العسكرى يريد الاستحواذ على مقدرات الناس.. الغضب الشعبى أصاب المجلس العسكرى بحالة من الخوف جعلتهم لا يأمنون على أنفسهم لو أنهم تركوا السلطة، بالإضافة إلى أننا لا نتحدث عن مؤسسة عسكرية مهمتها فقط تأمين حدود الوطن، ولكنهم تحولوا إلى مملكة مترامية الأطراف لديها مشروعاتها الاقتصادية الاستراتيجية التى تمس مباشرة حياة الناس.. رغيف العيش والإسكان والماء، كل هذه الأزمات التى يعيشها الناس تملك القوات المسلحة العصا السحرية فى لحظات لحلها! المواجهة القادمة مع الأسف ستصبح بين المجلس العسكرى والشعب، لأن الناس تريدها دولة مدنية.. مرسى لا يعبر بالتأكيد عن مدنية الدولة مثلما شفيق لا يعبر عنها، ولكن الشعب يريد أن يدفع قاطرة النظام لهذا الاتجاه.. «الكاكى» صار هو لون الدولة الرسمى والمؤسسة العسكرية تعبر عن انتماءات داخل المجتمع المدنى، هناك بين المثقفين والإعلاميين والصحفيين معروف ولاؤهم للمؤسسة العسكرية، وفى الأسابيع الأخيرة شاهدنا كيف أن هؤلاء يعلنون ذلك مباشرة من خلال تأييدهم لشفيق.. الآن سوف يتوجهون إلى المؤسسة العسكرية دون العبور فوق كوبرى شفيق. الوطن أصبح بين قوتين، إما أن تعلن انحيازك إلى المؤسسة العسكرية أو المؤسسة الدينية ومن غير المستبعد أن تجد الطرفين الإخوان والمجلس العسكرى قد وقفا على أرضية مشتركة، وتجهض فى النهاية الثورة، ويوزع الخصمان الغنائم! من يشكك فى نقاء الثورة أقول له الدماء الذكية التى أُريقت لم تكن أبدًا من أجل أن نستبدل مبارك بمؤسسة عسكرية لها مذاق دينى. العسكريون فى لحظة ضبابية اعتقدوا أن الفرصة مواتية لهم للإمساك بزمام الأمور، ولكنهم لم يلحظوا أن هناك قلبًا لا يزال ينبض بالحياة.. إنها الثورة التى لن تتوقف عن ترديد الهتاف «يسقط يسقط حكم العسكر»!