«خليك واقعى واطلب المستحيل». تمصير لشعار رفعته ثورات 1968 فى أوروبا، شعرت به أمس فى ميدان التحرير بعد خطاب المشير. الخطاب صادم ليس لأنه قال شيئا تحت طلبات الناس، لكن لأنه خرج من الميكروويف باردا. الخطاب يظهر ركاكة شديدة فى الكتابة والإخراج التليفزيونى، وعدم تقدير سياسى للحظة. والغريب أنه لم يذكر الجمهور الواسع فقط بالخطاب العاطفى للرئيس المخلوع، ولكنه أيضا كان علامة أو إشارة إلى جهة ما بنقل المعركة ضد الثوار إلى مرحلة أعلى. الخطاب العاطفى لمبارك كان كلمة السر، فهل كان خطاب المشير كلمة السر فى الحرب الكيماوية التى بدأت أمس بإطلاق غازات محرمة دوليا فى ميدان التحرير..؟ يبدو التزامن غريبا، ومثير للدهشة إطلاق الغازات المحرمة بعد ساعات قليلة من الخطاب.. وبيان القوات المسلحة الذى ينفى استخدام الغازات لم ير آلاف الصور ولم يسمع عشرات التقارير التى تتحدث عن التأثير القاتل للغازات التى تطلق على شباب يخاطرون بحياتهم من أجل استكمال عملية التغيير السلمى فى النظام السياسى لمصر. الحرب الكيماوية أثبتت أن الثورة عصية على الكسر لأنها لم تجعل الآلاف يغادرون الميدان، كما لم تنجح الحرب النفسية والإعلامية. الثورة لا تريد العودة عن بناء نظام ديمقراطى لا وصاية للعسكر عليه. هذه حقيقة بسيطة تلخصها مطالب محددة: أولا: وقف إطلاق النار وحرب الغازات على المتظاهرين فورا. ثانيا: محاسبة القتلة وأصحاب قرار ضرب المتظاهرين بالعنف غير المسبوق. ثالثا: إعلان دستورى بصلاحيات حكومة إنقاذ وطنى يسحب صلاحيات إدارة العملية السياسية من المجلس العسكرى ويعيدها إلى موقع رعاية المرحلة الانتقالية. رابعا: الإعلان الآن عن الدعوة إلى انتخابات رئاسية فى أبريل القادم. هذه هى القرارات العاجلة والحاسمة التى تعيد الثورة إلى مسارها.. ولا تغرقها فى متاهات العسكر. العسكر أداروا البلاد بمنطق المتاهة لتحطيم أى مسارات مدنية للانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية، يريدون مسارا وحيدا يضع العسكر فى موقع الوصاية على الدولة ليتحول الانتقال من استبداد إلى استبداد. المجلس العسكرى لا يريد أن يحكم لكنه يلعب اللعبة الخادعة، يقول إذا كان ثوار التحرير يريدوننا أن نرحل.. فإنهم لا يمثلون الشعب المصرى، وعلينا بالاستفتاء. هذه الخدعة المدهشة تفوق كل الخدع التى حاصرنا بها المجلس وشطاره من الأسبوع التالى لتوليهم إدارة المرحلة الانتقالية.. لأن: - المجلس يدير المرحلة الانتقالية بشرعية التغيير الثورى لا باستفتاء من شعب مصر. - المجلس العسكرى لا يحكم. لكنه يدير المرحلة الانتقالية بعد سقوط رئاسة الجمهورية.. وباعتباره مؤسسة من مؤسسات الدولة وفى مهمة محددة ولها خطة زمنية. - الثورة ليست انتخابات ولكنها انتصار لقطاعات من الشعب اختارت المخاطرة من أجل التغيير السياسى.. مخاطرة قد تؤدى بصاحبها إلى الموت.. أو تحقيق مطالبه.. هكذا خرج ضباط 23 يوليو بمخاطرة لإسقاط الملك.. وخرج ثوار 25 يناير بمخاطرة لإسقاط الرئيس.. المخاطرة تستكمل بتحقيق المطالب.. وهذه طبيعة الثورات فى كل التاريخ. - لماذا يريد المجلس الاستفتاء إذا كان لا يريد الحكم؟ - لا أحد يطالب بإنهاء المجلس العسكرى.. لأن المجلس مؤسسة تابعة للدولة ليس الدولة.. وليس نظام سياسيا.. إنه مؤسسة فى مهمة.. وبعد الفشل فى إدارة المرحلة الانتقالية.. لا بد من تعديل ليعود المجلس إلى حماية العملية الانتقالية.. لا إدارتها. الاستفتاء جزء من العملية العاطفية التى يلعب فيها المجلس على الخوف.. ماذا سنفعل دون الجيش؟ لأنه المؤسسة الباقية؟ البلاد ستعمها الفوضى؟ وأين سيذهب الجيش؟ الجيش مهمته الحماية لا الحكم. الجيش مهمته رعاية المرحلة الانتقالية.. لا إدارتها بطريقة أدت بنا إلى الكارثة. يبحث المجلس عن غطاء سياسى لخطته فى إبادة الثورة وخطاب المشير كشف عن بعضها والاتفاقات فى الكواليس كشفت عن جزء منها، لأن المطلوب تدمير كل المسارات المدنية ليستنجد الجميع فى صرخة واحدة: إلحقنا يا مجلس. وكما كان هناك أحزاب قصر، هناك الآن أحزاب مجلس تعطل التغيير المدنى لصالح جمهورية استبداد تعيد إنتاج مبارك جديد.