كثيرًا ما يُستخدم تعبير "غباء سياسي"، لوصف فعل أو قول يبدو متسمًا بالحماقة أو السذاجة. ويبدو أن ظاهرة الغباء السياسي شديدة القدم، حيث نتوقع أن يكون الغباء السياسي قرين الذكاء السياسي، وكلاهما مصاحبان للفعل السياسي منذ نشأته. ومع ذلك فإن هذه الظاهرة لم تحظ باهتمام كبير من الباحثين، خاصة في العالم العربي. ومن هنا تأتي أهمية كتاب "الغباء السياسي: كيف يصل الغبي إلى كرسي الحكم"، للكاتب الأستاذ محمد توفيق. يقع الكتاب في خمسة فصول تتناول الجوانب المختلفة لظاهرة الغباء السياسي. في الفصل الأول يؤصل الكاتب لظاهرة الغباء السياسي في التاريخ المصري على وجه التحديد، منذ عصور الفراعنة حتى الأسرة العلوية التي أسسها محمد علي وسقطت في عهد حفيده الملك فاروق. أما الفصل الثاني فيتعامل مع الغباء السياسي لدى شريحة معينة من الحكام هم العسكريون، ويتتبع بعض مظاهر غباء حُكم العسكر، مشيرًا إلى أحداث شهيرة يمكن أن تُصنَّف بوصفها شكلا من أشكال الغباء السياسي؛ مثل الصراع على السلطة بين رجال عبد الناصر وأنور السادات في الشهور الأولى من حكمه، وهو ما عُرف بثورة مايو أو انقلاب مايو 1971. ويتناول في هذا الفصل الغباء بوصفه مقومًا للوصول إلى السلطة والاحتفاظ بها! ويخصص قسمًا للحديث عن النكت السياسية التي تصنف وتنتقد غباء العسكر.
يتناول الفصل الثالث أحد مظاهر الغباء السياسي، وهو تصدير الأمن لحل مشكلات المجتمع. وتحت عنوان "الغباء الأمني" يتحدث الأستاذ محمد توفيق عن مظاهر الغباء الأمني، وآثاره على المجتمع، ويضرب المثال ببعض الحوادث الشهيرة الدالة على هذا الغباء مثل حادثة تعذيب وقتل الشاب السكندري خالد سعيد. ويختتم الفصل بتحليل نفسي للغباء السياسي، خاصة حالة الغباء الأمني.
الفصل الرابع يبدو في غاية التشويق، لأنه يتحدث عن كيفية استثمار الغباء سياسيًا. وفي هذا الفصل يقترب المؤلف من الأبعاد البرجماتية لظاهرة الغباء السياسي، وهي الأبعاد التي قد تجعلنا نعيد التفكير في تصورنا للغباء السياسي. فإذا كان هذا الغباء يحقق مصالح من يوسم به أو يدعيه، أليس الأحرى بنا أن نعتبره شكلا من أشكال الذكاء السياسي؟ يضرب المؤلف عدة أمثلة للاستغلال السياسي للغباء؛ من بينها استخدام الرئيس جمال عبد الناصر لشخصية إسماعيل ياسين في سلسلة الأفلام التي حملت اسم "إسماعيل ياسين" في الأسطول والطيران والجيش وغيرها لتقديم صورة إيجابية للجيش المصري، كما يُناقش دلالات شخصية جحا في التراث العربي والإنساني وتوظيفها. ويختتم بحالة معاصرة من حالات الاستغلال الاقتصادي لمظاهر الغباوة، هي حالة الممثل محمد سعد وسلسلة أفلامه التي جسد فيها شخصية "الغبي" كما ظهرت مع "اللمبي" في فيلم "الناظر" الشهير.
الفصل الأخير يناقش دور المؤسسات الاجتماعية في إنتاج الغباء السياسي. والفصل الذي يأتي تحت عنوان "صناعة الغبى"، يحلل بالتحديد دور التعليم والإعلام في تأسيس ظاهرة الغباء السياسي. كما يشير إلى أثر بعض الظواهر الأخلاقية مثل النفاق والخنوع في انتشار الغباء السياسي وإضفاء الشرعية عليه.
يجمع كتاب "الغباء السياسي" بين طرافة الموضوع وبراعة الأسلوب المكتوب به، فهو يجمع بين العلمية والسخرية في نفس الوقت. كما تهيمن عليه نزعة سردية طاغية، تكاد تحوِّل بعض فصوله إلى سلسلة متصلة من الحكايات. هذا الطابع السردي التأريخي جاء على حساب التحليل المعمَّق، وربما يرجع ذلك إلى حرص المؤلف على أن يكون كتابه في متناول القراء العاديين الذين وضع الكتاب من أجلهم. وقد أفلح الكتاب في انتزاع العديد من البسمات بفضل المفارقات المدهشة التي تولدها مواقف "الغباء السياسي". وفي الحقيقة فإن هذه البسمات سرعان ما تتحول إلى شعور مضن بالألم، لأن "غباء" الحاكم عادة ما يكون ذا آثار مآساوية على الشعوب.
لقد عشنا طويلا في كنف الغباء السياسي، وما يدعو للعجب ليس وصول الحاكم الغبي إلى الحكم واستمراره في الإمساك بمقاليده، بل تقبل الشعوب لحكمه ونفاقها لشخصه، والتشبث به حتى حين تبرز أمام كل العيون جرائمه. وهكذا فإن الشعوب التي ترضخ للظلم والقهر، وترضى بأن يحكمها أحمق أو أفَّاق أو مأفون هي التي تستحق هذه النعوت السلبية؛ لأنها تجسد حينئذ تلك المقولة الخالدة "كل شعب يستحق حاكمه".