الدستور أهم أم الانتخابات ؟ الحرية أهم أم الاستقرار ؟ الخبز والبنزين أهم أم العلم والتخطيط؟ الداخل أهم أم الخارج ؟ الرئيس أهم أم البرلمان ؟ الكبار أهم أم الصغار ؟ الريف أهم أم الحضر ؟ محاكمة المسئولين السابقين أهم أم الالتفات إلى الأحوال المتدهورة ؟ علاقاتنا مع أمريكا وإسرائيل أهم أم مع تركيا وإيران ؟ المتهمون الأجانب في قضية التمويل أهم؛ أم استقلال القضاء ومصداقيته ؟ هذه التساؤلات جميعها يلخصها تساؤل واحد يشملها جميعا؛ الحاضر أهم أم المستقبل؟ جرت العادة في كل الدول العربية؛ عبر خمسين الأعوام الماضية؛ على الاهتمام بالحاضر وعدم التفكير في المستقبل، بل وسرقة المستقبل من أصحابه؛ وأعني بهم الشباب والأطفال، وسأضرب لحضرتك على هذا الموقف المشين مثالين:
المثال الأول في دولة كالسعودية، تطفو أرضها فوق أبحر من البترول والغاز الطبيعي، اكتشفت في النصف الأول من القرن العشرين، حينها كان استخراج البترول من باطن الأرض عملية صعبة ومكلفة للغاية، لا يقدر عليها إلا الأمريكان، الذين اندفعوا بكل قوتهم وقدراتهم ومخابراتهم وانتهزوا الفرصة لإنشاء الشركة العربية الأمريكية للبترول (أرامكو) والتي تصاعد إنتاجها من بترول السعودية تدريجيا حتى وصل إلى 10 مليون برميل يوميا، أي أكثر من 3 مليارات ونصف المليار برميل سنويا، تستنفد رصيد مستقبل شباب الأمة الذين ستأتي أيامهم بعد عشرين عاما من الآن بما لا يسرهم، فالبترول سينفد، وسيجدون أنفسهم مفلسين، لا شئ يستخرجونه ليعيشوا من ربح بيعه، فقد استولى عليه الآباء والأجداد حين اعتبروا ما في باطن الأرض كلِه لهم، ولم يعملوا حسابا لمستقبل الأبناء..
المثال الثاني عندنا في مصر؛ عندما رحل الملك فاروق عن البلاد في يوليو 1952؛ استلم المنقلبون عليه من الضباط البلاد وديونها (صفر)، ولدى البنك المركزي فائض في الميزانية يتعدى ال 450 مليون جنيه استرليني، وعندما مات الرئيس عبد الناصر عام 1970؛ كانت ديون مصر الخارجية حوالي ملياري دولار معظمها للاتحاد السوفييتي السابق ديونا عسكرية، وكان سعر الدولار حين تولى الحكم 38 قرشا، وحين توفي كان سعره أربعين قرشا، وعندما مات الرئيس السادات كانت الديون الخارجية 40 مليار دولار معظمها للولايات المتحدةالأمريكية، وكانت كلها ديونا خارجية، وكان سعر الدولار أربعين قرشا حين تولى الحكم، واغتيل وكان سعر الدولار 60 قرشا، أما حين خُلع الرئيس حسني مبارك فالديون الخارجية حوالي 40 مليار دولار، والديون الداخلية تخطت حد الخطر إذ اقتربت من ال 1000 مليار جنيه، واستلم الحكم والدولار ب60 قرشا، وخُلع وسعره 590 قرشا، وضعا في الحسبان أن مئات مليارات المعاشات استولت عليها وزارة مالية بطرس غالي الهارب، واعتبرتها ضمن الميزانية العامة للدولة.. ومعلومة أخيرة؛ كان سعر الجنيه الذهبي (جنيه الملك جورج) حتى عام 1958 لايتعدى جنيها مصريا واحداً، (98،5 قرش)، والآن.. تعدى سعره الألفين ومائتي جنيها مصريا !
بعد هذا التلخيص لتاريخ الجنيه المصري والديون المتراكمة؛ ألا تعتبر هذه الديون متطاولة الآماد؛ مع كونها همّ الليل ومذلة النهار، هي التركة الثقيلة التي أورثناها أبناءنا ؟ ألن يجد أبناؤنا أنفسهم مقيدين ومسلوبي الإرادة حين يأتي زمانهم وبلدهم مثقلٌ بهذه الديون، بينما أورثناهم جنيها منهارا لا يساوي في ميزان العملات شيئا، وقوته الشرائية في مرتبة متدنية بين عملات العالم.
لقد انحدرت قيمة كل ما في مصر عبر ستين الأعوام الماضية على مرحلتين؛ ثلاثين الأعوام الأولى بحقبتيها الناصرية والساداتية، ثم ثلاثين الأعوام الأخيرة المباركية، التي كان لها النصيب الأكبر في إحداث الخراب، وهو ما يتجلى واضحا في عدة حقائق:
أولا: تدهورت قيمة الجنيه المصري أمام عملات العالم الرئيسية؛ الدولار واليورو والاسترليني والين والريال السعودي.
ثانيا: تضاعف حجم الديون الخارجية والداخلية حتى بلغت مستويات مخيفة.
ثالثا: بيعت أصول مصر من المصانع والقطاع العام بمبانيها وأراضيها لأهل الحظوة بأبخس الأسعار، وما طال الشعب المصري من عائد بيعها شيئا.
رابعا: فرطت حكومات مبارك المتتابعة في ثروات مصر من الغاز والذهب والمناجم، فباعتها بأسعار متدنية، همهم الأكبر في عمليات البيع المشبوهة هو مقدار ما سيحصلون عليه من عمولات وسمسرة.
خامسا: قضت هذه الحكومات قضاء مبرما على أي محاولة جادة للإنتاج الزراعي والصناعي، لحساب الاستيراد غير المحدود، وعلى حساب الإنتاج المحلي.
سادسا: حتى في مجال السياحة؛ تدهورت مكانة مصر السياحية بين مثيلاتها في العالم، فسرقت آثارها وبيعت لحساب الكبار، وهُربت منها إلى المعارض الدولية قطع لا تقدر بثمن، وانخفضت العائدات إذا ما قورنت بما يمكن أن تكون عليه إن حسنت الإدارة والنوايا.
سابعا: حين تدهورت قيمة كل شئ؛ الصحة والتعليم والحرية والكرامة؛ انهارت قيمة الإنسان في بلده وخارجها، وأصبح حال المصري في دول كدول الخليج مثلا؛ كحال اليتيم على موائد اللئام، بعد أن ساد تلك البلاد عشرات السنين منذ عشرات السنين..
إن ما حدث عبر ثلاثين الأعوام الماضية هو سرقة لمستقبل الأجيال القادمة، ولن تغفره لأجيالنا، لن يغفر لنا أبناؤنا صمتنا وخضوعنا وخوفنا، لن يغفروا مولاة بعضنا لحكامنا، لن يسامحونا في بيع ممتلكاتهم ومصانعهم وأراضيهم لأعدائنا، ولن يلتمسوا لنا العذر أن قدّمنا حاضرنا على مستقبلهم، فقد استلمنا الجنيه المصري قادرا على شراء جنيه ذهبي، وسلمناه لهم لا يقوى على شراء سندوتش فول.. إسلمي يا مصر.