البابا: أرجو لبلادنا كل خير ولتكن مصر بلدا للسلام والاطمئنان والأمان.. وليبارك الرب شعبها غاب البابا شنودة عن احتفالات الأقباط بعيد القيامة هذا العام، لكن ذكراه لم تغب مطلقا عن احتفالاتهم التى مسها الحزن بسبب رحيل البابا شنودة. «الدستور الأصلي» يعيد نشر آخر مقال كتبه البابا شنودة عن الاحتفال بعيد القيامة العام الماضى، وكان بعنوان «القيامة معجزة لازمة وممكنة ومفرحة»:
«أهنئكم يا إخوتى جميعا بعيد القيامة المجيد، أعاده الله علينا جميعا بالخير والبركة، وعلى بلادنا العزيزة فى سلام واستقرار وأمان بعون من الله صانع الخيرات كل حين... وأريد اليوم أن أحدثكم عن القيامة. وأقصد بها بلا شك قيامة الأجساد. لأن الأرواح حية بطبيعتها لا تموت. وبالتالى ليست فى حاجة إلى القيامة.
هذه الأجساد التى بالموت تحولت إلى تراب ستعود بالقيامة إلى الحياة. وكما سبق الله وخلقها من التراب، ومنحها الوجود، هكذا أيضا من التراب يعيدها إلى الحياة. ثم بعد ذلك يجعلها تتحد بأرواحها. ويقف الجميع أمام الله العادل، فى يوم القيامة العامة أو يوم البعث. وذلك لكى يقدموا حسابا عما فعلوه فى الحياة الدنيا خيرا كان أو شرا. إنه يوم الدينونة الرهيب. يتلوه المصير الأبدى لكل البشر. إما فى النعيم الأبدى وإما فى العذاب.
إن قيامة الأجساد لا شك معجزة، أى قد يعجز العقل عن فهمها وكيف تتم؟! وذلك فإن الملحدين وأنصاف العلماء قد يصنعون عراقيل أمام القيامة وإمكانياتها. وبالعكس فإن المؤمنين يؤمنون بالقيامة، لإيمانهم بقوة الله وإرادته وعلمه. فمن جهة الإرادة، الله يريد للإنسان أن يقوم من الموت، وقد وعده بحياة الخلود، وذكر القيامة. وما بعدها بكل وضوح وصراحة، ومن جهة المعرفة والقدرة، فإن الله يعرف أين توجد عناصر هذه الأجساد التى تحللت، وأين توجد عظامها. ويعرف كيفية إعادة تشكيلها وتركيبها. والله جل جلاله، هو كلى القدرة يقدر على كل ما يخص القيامة.
ولا شك أن عملية قيامة الأجساد هى أسهل بكثير من خلقها. فالله الذى خلقها من التراب، هو قادر على أن يعيدها إلى الحياة. من التراب أيضا. بل أعمق من هذا، هو خلق الأجساد من العدم. لأن التراب -قبل أن يكون ترابا- كان عدما، ومن هذا العدم خلق الله كل شىء. فهل كثير عليه إذن أن يقيم أجسادا من التراب؟! لذلك فإن الذين ينكرون القيامة أو يستصعبونها، إنما فى داخلهم ينكرون دون أن يشعروا بقدرة الله الذى يخلق من العدم.
والقيامة إذن لازمة من أجل كرامة الجنس البشرى، فلولاها لكان مصير جسد الإنسان مصير أجساد الحيوانات التى تموت فينتهى وجودها بموتها.. فما هى إذن ميزة هذا الكائن البشرى العاقل الناطق الذى أنعم الله عليه بموهبة التفكير والاختراع، والقدرة على أن يصنع مركبات الفضاء التى توصله إلى القمر، وتدور به حول الأرض وترجعه إليها، وقد جمع معلومات عن الكون لا نعرفها.. هذا الإنسان الذى اخترع الMobilePhone، والكمبيوتر والفيسبوك واختراعات طبية وعلمية كثيرة... هل يعقل أن هذا الإنسان العجيب يؤول مصيره إلى مصير بهيمة أو حشرة أو بعض الهوام؟! إن العقل لا يقبل شيئا من هذا كله.
والقيامة أيضا ضرورة تستلزمها عدالة الله وذلك من ناحيتين: من جهة الروح والجسد، ومن جهة أحوال الناس على الأرض.
فمن جهة الروح والجسد، نقول إن الإنسان على الرغم من خلقه فى طبيعتين. طبيعة روحية وأخرى مادية، إلا أنهما اتحدتا فى طبيعة واحدة هى الطبيعة البشرية، يشترك فيها الجسد والروح معا. فالجسد ينفعل بحالة الروح، بفكرها ومشاعرها ونياتها: الروح تهاب الله وتخضع له، فينحنى الجسد تلقائيا. الروح تحزن، فتبكى العين فى الجسد، وتظهر ملامح الحزن على الوجه. الروح تفرح، فتظهر الابتسامة على الوجه. الروح تخاف، فيرتعش الجسد، ويظهر الخوف فى ملامح وجهه.
إنها شركة فى كل شىء. ليس من العدل أن تتحملها الروح وحدها، أو الجسد وحده. بل يتحملها الاثنان معا. وهكذا لا بد أن يقوم الجسد، ويتحد بها.
ولو لم تكن هناك قيامة، يتمادى الناس فى ملاذ الحياة الدنيا، وفى شهواتها وفسادها، غير عابئين بما يحدث فى ما بعد. أما الإيمان بالقيامة، فإنه رادع الناس، إذن يؤمنون أن العدل سيأخذ مجراه فى الحياة الأخرى.
القيامة أيضا لازمة لأجل التوازن: ففى الأرض ليس هناك توازن بين البشر: ففيها الغنى والفقير، السعيد والتعيس، المتنعم والمعذب. ما دام التوازن غير موجود على الأرض، فمن اللائق أن يوجد فى السماء. ومن لم ينل حقه على الأرض، يمكنه أن يناله فى السماء، ويعوضه الرب على ما فاته فى الدنيا، إن كان بارا، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا فى موقع الأنبا تكلاهيمانوت فى أقسام أخرى. كذلك هناك تعويض آخر فى السماء لا يأتى إلا بالقيامة، فعلى الأرض يوجد عميان، ومعوقون، ومشوهون، وأصحاب عاهات، وكل الذين لم تنل أجسادهم حظا من الجمال أو من الصحة أو من القوة. فمن العدالة أن تقوم أجسادهم فى اليوم الأخير بلا عيب. ويعوضها الله عما قاسته من نقص.
القيامة أيضا معجزة جميلة تقدم الحياة المثالية فى العالم الآخر. فالإنسان المثالى الذى بحث عنه ديجول الفيلسوف ولم يجده، والذى فكر العلماء كيف، هذا الإنسان المثالى الذى يسمونه SuperMan تقدمه لنا القيامة فى العالم الآخر، فى عالم ليست فيه خطية على الإطلاق، ولا يوجد فيه حزن ولا بكاء، ولا فساد، ولا ظلم، ولا عيب ولا نقص، إنه عالم الأبرار الذين كافأهم الله عز وجل...
القيامة هى أيضا معجزة مفرحة، لأنها باب الأبدية: نعلن بها نهاية الموت.. أن نقول إن الموت قد مات بالقيامة، إذ لا موت بعدها. ويدخل الإنسان فى الحياة التى لا تنتهى، أعنى الحياة الأبدية، حياة الخلود، التى هى حلم كل إنسان على الأرض. ومن أجلها يضبط نفسه، ويقاوم الخطية، ويفعل البر، لكى يستحق هذا الخلود المملوء فرحا.
أخيرا، ببركة القيامة السعيدة المجيدة، أرجو لبلادنا العزيزة كل خير. ولتكن مصر على الدوام بلدا للسلام والاطمئنان والأمان. وليبارك الرب شعبها واقتصادها وعلاقاتها».