يحيى قلاش انتقال الحوار حول الدستور إلى مرحلة الفعل والتنفيذ اختبار صعب وكاشف لكل القوى والتيارات، وألوان الطيف السياسي والاجتماعي، وكل المؤسسات الأهلية والدينية. فهذا أول عقد جديد بعد ثورة 25 يناير التي قامت لتطالب بالتغيير والحرية والعدالة الاجتماعية.. وهذا هو العقد الذي تم دفع مهره الكبير لتكتب مواده بدماء الشهداء، وتنطق سطوره بتضحيات الآلاف من أبناء شعبنا الذين عانوا الاستبداد والفساد والقهر، وخرجوا ينتزعون حقهم في العيش بكرامة في وطن حر يمتلك إرادته ولا تنتهك سيادته. إذا لم يتم صياغة الدستور بالروح التي حكمت مصر منذ قيام ثورتها وحتى إسقاط الطاغية، وبالقانون الذي صاغ به ملايين الثوار علاقتهم في ميدان التحرير وجميع ميادين مصر، التي نسينا فيها الخنادق السياسية والفكرية والدينية، ولم نميز بين لون أو جنس أو سن أو مستوى اجتماعي، فسوف يكون الثمن فادحا. وأحسب أن روح العدالة التي تطبق على مواطنين يعيشون في وطن واحد، وأن فلسفة الحريات التي يجب أن تنطلق منها مواد هذا الدستور الذي نأمله، هي الأساس لبناء دولة ديمقراطية، لذلك لا يمكن قيام هذه الدولة إلا على دعامتين رئيسيتين، استقلال القضاء وحرية الصحافة والإعلام، كأحد تجليات حرية التعبير والحريات العامة. ولسنا في حاجة الآن للتدليل على أهمية قضية استقلال القضاء، الذي كان يسخر المستشار الزند رئيس نادي القضاة عندما تخرج الأصوات تطالب به، فيرد اخرسوا "فالقضاء ليس محتلا حتى يستقل"، حتى جاءت قضية التمويل الأجنبي وما جرى فيها من اعتداء على سيادة القانون وسيادة مصر في واقعة غير مسبوقة على هذا النحو من الفجاجة، وكأننا بهذه الفضيحة العار والمدوية عدنا للقرن التاسع عشر، عندما كان "نوبار باشا" يطرح "مسألة العدالة" في برنامجه للإصلاح ويربطها بالنظام القضائي، الذي كان يطالب باستحداثه وإسباغه على جميع سكان مصر، لأنه الطريق الموصل إلى الحرية والاستقلال عن النفوذ الأجنبي الذي كان يعشش في قنصليات الدول الأوروبية، التي كانت بمثابة دولة داخل الدولة، وكان يرى أن تلك العدالة لن تتحقق إلا بتأديب الجاليات الأجنبية التي تعدت حدود ما منحته لها الامتيازات الأجنبية!! وكذلك حال حرية الصحافة والإعلام التي تتراجع، رغم الصخب والضجيج، كما أن كل ما يصدر بشأنها أو يدور في الكواليس مقلق لأنه يتم في الظلام وفي غياب حوار عام ينطلق من فهم أن هذا الملف يخص قوى المجتمع وليس الصحفيين وحدهم، وكذلك في غياب المعنيين الذين يملكون الرؤية والمصلحة سواء الزملاء المنتخبين في مجالس الإدارات والجمعيات العمومية في المؤسسات الصحفية أو نقابة الصحفيين. فقد دخل الصحفيون على مدى تاريخ مهنتهم وتاريخ تنظيمهم النقابي في معارك كبرى دفاعا عن الحريات، وعقدت النقابة منذ نشأتها عام 1941 أربعة مؤتمرات عامة أولها عام 1964 وآخرها عام 2004 طالبت فيها بإجراء إصلاح سياسي ودستوري شامل يضمن التداول السلمي للسلطة، وإضفاء الطابع الديمقراطي على جميع مؤسسات الدولة والمجتمع، وإنهاء جميع صور انتهاك حقوق الإنسان والحريات العامة، وإعادة الاعتبار لكرامة المواطن المصري، والاعتراف بحقوقه السياسية والاقتصادية، وإلغاء حالة الطوارئ وكافة القوانين الاستثنائية والمقيدة للحريات، ورفض محاكمة الصحفيين والمدنيين أمام المحاكم العسكرية والاستثنائية، والنهوض الشامل بأحوال الصحافة المصرية وإسقاط جميع القيود التي تحد من حريتها وقدرتها على تحمل مسئولياتها الوطنية والمهنية. كما قدم هذا المؤتمر رؤية لإصلاح أوضاع المؤسسات الصحفية، خاصة فيما يتعلق بموضوع الإدارة والملكية وحقوق العاملين وضمان الاستقلال الحقيقي لهذه المؤسسات، ومطالبة مجلس الشورى باحترام ومراعاة المعايير المهنية في اختيار رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة، والاستناد إلى مواصفات الامتياز المهني والمصداقية العامة بين جموع الصحفيين، تمهيدا لوضع نظام جديد يكفل مشاركة الصحفيين أنفسهم في اختيار قادتهم. نعم قضية الدستور اختبار صعب وكاشف، واستقلال القضاء وحرية الصحافة هما البوابة الوحيدة للدخول إلى الدولة الديمقراطية ونجاح أهم أهداف ثورتنا وإلا ابشروا باستبداد جديد.