عدم الاحترام داء تأصل في نفوس المصريين على كل مستوياتهم عبر ما يقارب ستين الأعوام الماضية، أي منذ انقلاب يوليو 1952 ! هل تتهمني عزيزي القارئ بالتجني علينا – نحن المصريين ؟ هل تطلب مني أن أعتذر عن هذا الاتهام ؟ هل أنا متجنٍّ فعلا؛ أم إنها الحقيقة التي لا نراها برغم وضوحها ؟ ولا نعترف بها رغم معاناتنا ؟ هل تحب أن أبدأ من قمة الهرم أم من قاعدته ؟ لنبدأ من القمة.. خد عندك.. رئيس الجمهورية السابق وسابقه وسابقه ثلاثتهم لم يحترموا القسم الذي تلوا كلماته ساعة توليهم المسؤولية، فكانت عهودهم الثلاثة مترعة بالهموم إلا نزرا يسيرا، مليئة بالهزائم أذيقتها بلادنا إلا نصرا واحدا كبيرا في أكتوبر 1973، إعتمدوا للسيطرة الكاملة على الشعب على جهاز الأمن الذي أصبح أجهزة للقمع، فما احترموا للشعب حرية ولا حقوقا ولا إرادة، وسلبوه قدرته حتى على الكلام. معظم من تولوا الوزارات والمحافظات والوظائف القيادية في العهود الثلاثة لم يحترموا عقل الشعب الذي تولوا أمره، ولم يحترموا مناصبهم بما تمليه عليهم من التجرد والصدق والإخلاص والأمانة وإنكار الذات، ولم يحترموا سوى مصالحهم، فارتزق منهم من ارتزق، واختلس من اختلس منتهزين فرصة تعطيل قانون محاسبة الوزراء منذ عام 1954، والذي لم يكن تعطيله آنذاك إلا لحماية من لا يحترمون الشعب ويستهينون به وبعقول أبنائه، ومواكب الوزراء والكبراء في العهد البائد تدل على عدم احترام هؤلاء للشعب. والإعلام؛ كتابع للسلطة في بلادنا؛ لم يحترم في أي وقت عقلية المواطن المصري في كل مواده وبرامجه وتوجهاته، فكانت دوما مزيجا من عدم الاحترام لعقولنا والاستهبال والاستخفاف والاستهانة، بل والإهانة وبخاصة إذا ما عقدنا مقارنة بين مواد إعلامنا التافه المُسَيَّس في قنواته المختلفة، ومواد إعلام دولة صاعدة؛ كإيران مثلا. هل ترى عزيزي في مصر منذ خمسة عقود من يحترم قواعد البناء ؟ سواء في عدد الطوابق، أو لون المبنى أو شكل الشرفات أو التصميم المعماري، لم يحترم مهندسو ومقاولو البناء في مصر لا ذوق ولا أبسط قواعد البناء، فاكتست أرض مصر الزراعية بمئات آلاف المباني السكنية المتلاصقة ذات لون الطوب الأحمر الكئيب، حيث لا تُحترم حقوق الجيران أو صحة السكان، فالشمس لا تدخل في بيوتها، والرطوبة في جدرانها، والزحام داخلها يخنق الأنفاس. أنظر حولك جيدا عزيزي.. هل ترى منا احتراما لحقوق الأطفال ؟ أبداً.. برغم توقيع ولاة أمورنا على الوثائق والاتفاقيات الدولية التي ترعى حقوقهم؛ فستجد أن أطفال الشوارع والمشردين والمتسولين والمتسربين من التعليم؛ فاقت نسبتهم كل متوقَّع، حتى أصبحوا خطرا يهدد أمن مصر، ويتوعد المستقبل بكل خطر. هل احترمنا في مصر أهم ما وهبه الله لأرض بلادنا؛ النيل ؟ أبدا.. طال التلويث مياهه، وسرقت شواطؤه، وسربت مياه الصرف (الصحيّ) والصناعي إليه، فأصبح ما تغنى به الشعراء من جماله قبحا، ومن صفائه عكارة وتلوثا، ومن مرآى شاطئه الجميل عمارات وأبراجا شاهقة ليس في بنائها أي جمال أو ذوق أو فن. هل احترمنا ما حبا الله بلادنا من شواطئ على البحرين الأحمر والأبيض ؟ لا.. فلم تلق تلك الشواطئ أي احترام أو اهتمام أو تنمية؛ سواء كان للثروة السمكية الضائعة، أو إيهام الناس واستغفالهم ببناء منتجعات للجولف والقصور والفيلات؛ لا يستفيد منها إلا نسبة ضئيلة منهم، ولا تحترم حريتهم في ارتياد تلك الشواطئ. هل احترمنا تاريخنا المتمثل في ثلثي آثار العالم التي على أرضنا ؟ أبدا.. أهملت وزارة الثقافة المتاحف، وسرقت الآثار وهُرِّبت وبيعت لحساب الكبار، في ذات الوقت الذي نرى فيه شعوب الدول الأخرى يُستثمر تاريخها وإمكانيات بلادها لمصلحتها. هل احترم منتجو الأفلام السينمائية والممثلون والعاملون في السينما والمسرح والتلفزيون عقول المصريين ؟ ستجد أن معظم هذه الأعمال المسماة بالفنية لا تحترم عقل المشاهد، وكلمات الأغاني هابطة إلى درجة إهانة عقل المستمع، وأصبحت الكوميديا تعتمد على الإيفيهات الجنسية والإيحاءات والتصريحات البذيئة لتنتزع الضحك من أفواه المشاهدين، ولا غرابة.. فهؤلاء جميعهم لا يحترمون عقلية المشاهد المصري. لم يحترم أساتذة الجامعات والقائمون على امتحانات الكلّيات تفاوت درجات ذكاء وتميز طلابهم، فاستشرت الوساطات والتوصيات والمحسوبية، مما ترتب عليه انهيار عملية التعليم الجامعي والبحث العلمي انهيارا تاما، وأصبح خريج الجامعات المصرية لا يتمتع بالاحترام، وشهاداته ومؤهلاته كذلك انحسر احترامها لحساب الجامعات الأجنبية. لم نحترم – كشعب عربي أغلبه مسلمون – لغتنا العربية، فتسربت في تعليم أبنائنا اللغات الأجنبية، وشكّلت وجدانهم وأضعفت انتماءهم واحترامهم لبلادهم وتاريخهم وثقافتهم، وأصبحت ثقافة الجيل الجديد ثقافة لقيطة غير محترمة؛ لا أمام أنفسهم ولا أمام العالم. لم يحترم مشرعو القوانين منذ العهد الناصري حتى اليوم حق مالك العقار في التصرف فيه كما يحلو له، وقيدوه بقانون الإيجارات القديم، ومسحوا بحقه البلاط لاستقطاب الغالبية المستأجِرة على حساب ملاك العقارات، واهتبل المستأجرون الفرصة ولم يحترموا حق الملْكية فتمادوا في ظلم الملاك لأن القانون يحميهم، ومن قبل هذا القانون الظالم كانت قوانين التأميم و (الإصلاح) الزراعي وتحديد الملكية كلها قوانين لم تحترم حقوق الناس، وجعلتهم بموجب تطبيقها أعداء بالقانون.
ولأن رب البيت ظل لعهود بالدُّف ضارباً؛ فأهل البيت جميعهم أصبحت شيمتهم الرقص، فالصغير لا يحترم الكبير، والقوي لا يحترم حق الضعيف، والراكب لا يحترم حق السائر في عبور الطريق، وأصحاب العُرس لا يحترمون حق الآخرين في الهدوء، والباعة الجائلون لا يحترمون الرصيف إن وُجِد، وسائقو سيارات الميكروباص والميني باص لا يحترمون قواعد المرور أو السائقين الآخرين، والعامل لا يحترم عمله، والمدرس لا يحترم حق تلاميذه في وقته وجهده لأنه هو نفسه هُضم حقه في دخل يكفل له حياة كريمة، والطبيب لم يحترم حق مريضه في المستشفى الحكومي لأن حقه ضاع ولم يحترم، في ذات الوقت الذي صُعّد فيه لاعبو الكرة والممثلون والرقّاصون؛ واحتُرموا مع أنهم لا يقدمون للمجتمع ما يقدمه الطبيب، والموظف لا يحترم المواطن إلا إذا شخشخ المواطن جيبه ورشاه، والفلاح لا يحترم أرضه فجرّفها وبوّرها وباعها أمتارا للمباني طمعا في المكسب السريع، والقائمون على الانتخابات عبر عشرات السنين لم يحترموا تعهدهم بالنزاهة والشفافية والحياد؛ فكانت كلها انتخابات مزورة صبت دوما في مصلحة الحاكم المستبد ونظامه المفروض بالقوة والقمع وعدم الاحترام، والعديد من ضعاف النفوس لم يحترموا حاجة الناس للسلع المدعمة كالبنزين والسولار والبوتاجاز؛ وتاجروا فيها وهرّبوها، وتسببوا في حدوث الأزمات الراهنة.
أذكر لي سيدي القارئ أية قيمة أو مبدأ احترمناه في مصر عبر سبعة وخمسين الأعوام الماضية؛ أي منذ 1954، ستجد أننا سحقنا - بناء على تصرفات قادتنا وولاة أمورنا - كل المبادئ وكل القيم، ولم نحترم أيا منها، وإلا فأين الإخلاص في العمل ؟ وأين التفاني وأين الانضباط ؟ أين الصدق وأين الإيثار والتضحية ؟ أين حب الوطن والاستعداد لبذل النفس في سبيله ؟ أين إغاثة الملهوف ومساعدة الضعفاء والتكافل والتآزر والتراحم ؟ أين القناعة والرضا ؟ أين وأين وأين... أين الاحترام ؟ لقد أعادت ثورة 25 يناير لنا – نحن المصريين – كثيرا من احترامنا لأنفسنا، ولاستكمالها لتحقق أهدافها؛ لا نحتاج لثورة أخرى كما يحلو للبعض أن يثير هذه الأيام، وإنما مطلوب منا أن نعيد الاحترام بيننا كقيمة سُلبت منا وعُمِّيت علينا طوال فترات الحكم السابقة، ولن يغير الله ما بنا إلا أن نغير ما بأنفسنا...إسلمي يا مصر.