هل تذكرتَ أحدا حين أدليتَ بصوتك عزيزي القارئ؟ أثناء انتظاري للإدلاء بصوتي في انتخابات مجلس الشعب الذي اقترب موعد انعقاده، مر بخيالي شريط مظاهراتنا ووقفاتنا بعد استشهاد خالد سعيد، كان ذلك منذ عام ونصف، كنا يومها خائفين، قليلين، مقهورين! رحمك الله يا خالد، "دمك بيحرر وطن" كما هتفنا في مظاهرات الثورة كلما مررنا بميدان كليوباترا القريب من منزله. كنت أقول لأصدقائي في المظاهرات إنني أتذكّر خالد كثيرا وأحس به يمشي بيننا في المظاهرة، الآن أشعر أن أرواح شهداءنا تشاهد مصر وتبتسم لنا. عرفتُ بجريمة قتل خالد من الفيس بوك، واشتركت في جروب "كلنا خالد سعيد". لاحظتُ أن مظاهرات الاحتجاج على قتله اختلفت عن المظاهرات السابقة عليها، والتي كانت تتأسس على دعوة قوى سياسية، وكانت في الإسكندرية لا تزيد عن خمسين غالبا، وأحيانا تقل كثيرا، بينما كنا نصل للمائتين في مظاهرات خالد، وفي مظاهرة الأربعين قاربنا الألفين. أذكر الآن مظاهرتنا الأولى للاحتجاج على قتل خالد، حين أعلن جروب كلنا خالد سعيد أننا سنصلي صلاة الغائب عليه في جامع سيدي جابر الشيخ بعد صلاة الظهر، ثم نقف وقفة احتجاجية أمام الجامع. فتّشتُ دولابي حتى عثرتُ على "تي شيرت" أسود كما أعلن الجروب، وحرصتُ على الاستيقاظ قبل صلاة الظهر بوقت كاف على غير عادتي في يوم الأجازة. وعلى الناصية السابقة للمسجد لاحظتُ المخبرين ورجال الأمن المركزي يتحدثون باللاسلكي. كانت هذه المظاهرة هي الأولى في حياتي. كنتُ أرى هؤلاء الوحوش يضربون المتظاهرين بوحشية على اليوتيوب، وكنت أشعر بالرعب منهم وهم على شاشة الكمبيوتر، أنا اليوم أمامهم مباشرة. فكرتُ أن "التي شيرت" الأسود سيفضح نيتي بالتظاهر، وربما يعتقلونني قبل عبوري الناصية الأخرى للجامع، ثم ينكّلون بي كما في اليوتيوب... ياربييييي. تفرجتُ عليهم من بعيد، ثم تحاشيتُ النظر إليهم حين عبرتُ أمامهم كأنني بريء تماما من أي نية للتظاهر، حتى دخلتُ صحن الجامع فالتقطتُ أنفاسي. بدأتْ هواجس أخرى تطاردني، فكرتُ في أن اعتقالي سيؤدي إلى عمل ملف لي بأمن الدولة مع إرسال إخطار لجهة عملي بأن لي نشاطا سياسيا، وهي جهة شديدة الحساسية أمنيا، خفتُ على وظيفتي وعلى طموحي لتنظيم أنشطة شعرية عامة بجهة عملي. لكن هواجسي انقطعتْ حين بدأ شباب يرتدون "تي شيرتات" سوداء يدخلون صحن الجامع انتظارا للصلاة، ومن حين لآخر يسألني أحدهم بحذر: مش المظاهرة هنا؟ فأقول له بصوت هامس: أيوة بعد الصلاة. انتهت الصلاة وأنا أحاول أن أبدو شجاعا رابط الجأش، حتى بدأ الهتاف يرجّ صحن الجامع، فرفرفت قلوبنا معا مثل سرب كبير من العصافير، وتبخّر خوفنا من هذا الجسد الهائل من الشباب، وهتفنا بكل خلية وقطرة دم في أجسادنا. هذه هي المرة الأولى التي أواجه فيها هذا الخوف وأهزمه، ليس لشجاعتي "أنا"، بل لشجاعتنا "نحن". كان هذا درسنا الأول في سنة أولى ثورة. أتصوّر أن الإحساس بقوتنا معا في هذه المظاهرات، هو الإحساس الذي شجع البذرة الأولى من متظاهري 25يناير على الانطلاق للشوارع، وهو أيضا ما جعل هذا الإحساس ينتشر كالعدوى بين المصريين العاديين. عجبي عليك يا زمن. بعد الثورة، في الذكرى الأولى لقتل خالد، وجدتُ على جروب كلنا خالد سعيد مقطع فيديو لمظاهرتنا الثانية في ميدان كليوباترا، وعنوان الفيديو "شباب مصري شارك في صنع التاريخ"، وحين شاهدته ضحكتُ على نفسي كثيرا لأن هذه المظاهرة بالذات غيّرتْ كثيرا في شخصيتي. ففي اليوم التالي أرسلتُ لصديقي عبد الوهاب عزاوي هذا الإيميل: --- On Thu, 6/17/10, Omar Hazek [email protected] wrote: From: Omar Hazek [email protected] Subject: من عمر حاذق To: "'abedelwahab azzawi'" Date: Thursday, June 17, 2010, 5:50 AM مساؤك شعر ومحبة يا اخي الحبيب كيف حالك؟ وحال احبائك جميعا اتمنى انك بخير دائم ما اخبار دراستك؟ وهل انت الان في انجلترا؟ وكيف حال مايا الان؟ انا اعيش لحظات ذهبية في حياتي... هناك غضب شعبي عارم بسبب مقتل شاب بريء على يد الشرطة بطريقة وحشية، واشارك في مظاهرات سكندرية قوية جدا وناجحة رغم ان معظم الناس خائفون جدا وجبناء لكن هناك موجة قوية اتية في الافق وانا مستعد لها بكل جوارحي، فمنذ فترة طويلة جدا لم اشعر بهذا الانتماء والعزة... بالامس كانت ثالث مظاهرة على التوالي وكان الامن مرعوبا وحشد الكثير من العساكر والبلطجية ليضربونا ومرت لحظات عصيبة قبل بدء المظاهرة واحتار الشباب مدة ثم قرروا ان نبدا معا من مكان قريب من المكان الاصلي ثم نذهب معا لا واحدا واحدا، ومشيت في الصف الاول مع اصدقائي نهتف بسقوط مبارك والبلطجية عن يميننا وشمالنا ينتظرون الاوامر ليفتكوا بنا.... لكننا قلنا كلمتنا ومضت الامور على خير لكنني اشعر بمشاعر لم اشعر بها من قبل يا اخي الحمد لله انت ما اخبار ابداعك؟ الحقيقة أنني حين تفرّجتُ على مقطع الفيديو رأيت نفسي في الصف الأول أمام جنود الأمن، رافعا لافتة ورقية عليها صورة خالد، بدوتُ في الفيديو شجاعا في مواجهتهم؛ وهذا بالتحديد ما أضحكني، لأنني أذكر جيدا أنني قبل بداية المظاهرة كنتُ مرعوبا لدرجة أنني خجلت من نفسي وقررت الاندفاع للصف الأول حتى أكسر هذا الخوف المخجل الذي لازمني طوال المظاهرة وإن لم يظهر عليّ. ضحكتُ على نفسي مرة أخرى لأن صحفيا في الشروق تهوّر وصوّر المظاهرة، وكنتُ واضحا جدا في الصورة، وفي اليوم التالي جاء أحد زملائي لمكتبي وقال لي مازحا "أيوة يا عم الثورجي بتنزل مظاهرات من ورانا"، فغيّرتُ مجرى الحديث، ثم ذهبتُ إليه على انفراد ورجوتُه ألا يخبر أحدا من زملائنا بذلك، فقد كنت أعمل في مكتبة الإسكندرية، التي ترأسها سوزان مبارك. الآن ربما "أبروز" هذه الصورة وأعلقها في صالون بيتنا. بالطبع لا أقصد السخرية من لحظات خوفنا وضعفنا الإنساني، لأنها ببساطة دليل على إنسانيتنا، أردتُ فقط أن أحيّي روح خالد سعيد وشهداء ثورتنا، لأن مظاهراتنا من أجله كانت "بروفاتنا" الأولى لمظاهرات الثورة؛ فقد علّمتْ كثيرين منا أننا أقوياء بأخوّتنا، وحب بلدنا، وعدالة ما نؤمن به من قيم، وهذا ما قوّانا على مخاوفنا من القتل والإصابة في المظاهرات، وشجعنا اليوم على تحقيق إنسانيتنا بالإدلاء بأصواتنا. صحيح يا شهداءنا: "دمكم حرر وطن".