كان مشهدًا معتادًا ومكررًا؛ ضابط الجيش برتبة اللواء كبير السن والمقام ينفعل على الشاب الثائر المنتمي لحركة (6 إبريل)، وينعته بقلة الأدب وبالتطاول على من هم أكبر منه سنًا ومقامًا وعلى حد قوله "أسياده" لأن جماعة الشاب تتبنى حملةً تنعت العسكر بالكاذبين، وبدلاً من أن يتناول اللواء الأمر بالنقاش ويفند أسانيد الشاب بالحجة، لجأ إلى ما يلجأ إليه الكبار عادة في مجتمعنا من طريقة توفر لهم وقتهم وجهدهم، وتضمن لهم الإنتصار ولو المؤقت في حواراتهم وهي الإحتماء بكونهم أكبر سنًا وأعلى مقامًا والمنزهين عن كل الأخطاء، المصيبين في آرائهم دائمًا، وعلى التابعين الطاعة، وكثيرًا ما تفلح هذه الطريقة خاصة إذا كان الخصم متربي وابن ناس. وهذا المشهد ما هو إلا تكرار فج للمشهد الشهير بين الرئيس السادات رحمه الله والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح عندما كان رئيسًا لإتحاد طلاب الجامعات المصرية وقد واجه الطالبُ الشاب رئيسَ الدولة بما يراه خطأً من تفضيل الرئيس للمنافقين من أهل الصحافة والإعلام، فإذا بالرئيس يسلك نفس الطريق السهلة لإنهاء الموقف وإيقاف الطالب صوت الحق عند حده، صائحًا فيه صيحته الشهيرة: قف مكانك ياولد... إنت بتكلم رئيس الجمهورية. لكننا إذا أعدنا قراءة هذا المشهد الردئ وجدناه آفة من آفات مجتمعنا، تكمن في كل ركن من أركانه، أن نجد كل من يجلس على كرسي يضع بينه وبين مسائليه ومحاسبيه جدارًا من الهيبة يبنيه من عدد سنين عمره، وربما من ألقابه ومناقبه، ويعطي لنفسه حصانة يخفي وراءها أخطاءه وينفرد بها بقراره ويستهين بها بعقولهم وآرائهم وأحلامهم. أن نوقر كبيرنا واجب حثنا عليه ديننا، ولا ينقص من توقيرنا للكبير أن نسائل من يحكموننا إن رأينا منهم ميلا عن الحق، ولا يتنافى مع إحترامنا للكبير أن نحاسب من يديرون شئون البلاد ونذكرهم بما وعدوا به وأخلفوا، وبما قالوه ونسوه، نعينهم إن أصابوا، ونريهم زلاتهم ونقومهم إن أخطأوا. نحتاج أن نحدد شكل العلاقة بين رئيس العمل أورئيس الدولة وبين المرؤسين أو أفراد الشعب بعيدًا عن المجاملات والعواطف التي لا تحفظ برًا ولا تقيم حقًا، فلا معنى أن يكون رئيس المكان هو أب لمرؤسيه ثم يجامل ابنه الذي يحمل اسمه فقط في أمور الترقيات والعلاوات، ولا حق في أن يكون رئيس الجمهورية هو أب العائلة المصرية وعند الحديث عن المصالح والمكاسب والتوريث لا يكون لأحد من أبناء الشعب حق إلا ابنه من صلبه، ولا أظن أنه من العدل أن يقوم لواء الجيش بتأديب الشاب الثائر مدعيًا أنه في مقام أبيه وهو لم يوفه حقه من الحماية ولا من الأمان، ومن غير المقبول أن يطالب المجلس العسكري أبناء الشعب المصري بحقه عليهم من التبجيل والتسليم له وهو لم يفِ بوعوده في ضمان الحريات ومحاكمات المفسدين ونصرة المظلومين. وكثيرًا ما نسمع هذه الأيام عبارة "شوية عيال" تطلق على الشباب من الثوار، وكأن عمر المرء شرط من شروط صواب رأيه، وصلاح منطقه، وننسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وضع أسامة بن زيد بن حارثة وعمره تسع عشرة سنة على رأس جيش يضم كبار الصحابة عليهم جميعًا رضوان الله، فجيش المسلمين كان عائدًا من غزوة مؤتة بعد لقاء جيش الروم بآلافه المؤلفة، وقد استشهد ثلاثة من قواده الواحد بعد الآخر، أحدهم زيد بن حارثة رضي الله عنه، وكان قرار رابع القواد خالد بن الوليد أن يرجع للمدينة، وكان الجيش الجديد وعلى رأسه أسامة... شابًا يافعًا يملك من صفاته ما جعل النبي عليه السلام يختاره لمهمة كهذه، واضعًا عليه السلام لنا من بعده سنة إختيار الأكفأ والأنسب وإن صغر عمره. نحتاج في أيامنا المقبلة أن ننظر إلى أحوالنا بعين المنطق، وأن نغلب صوت العقل في حكمنا على ما يحدث حولنا. نحتاج أن نفرق بين إحترام الكبير وبين نفاقه أو الخوف منه، وأن نعلي في أعمالنا وشئون معايشنا قيمًا؛ كالكفاءة والصدق والتفاني، على متغيرات استهلكناها واستهلكتنا كعدد سنين العمر والألقاب والمناصب، وأن نحكم قبضتنا على دفة أمور حياتنا، وأن نسائل ولاة أمورنا ونحاسبهم ونقومهم كمنهج الصحابة الأولين رضي الله عنهم، حتى لا يضيع الحق بيننا.