الإخلاص عملة نادرة حقًّا، وجوهر الإخلاص هو أن تقول وتفعل ما تراه صوابًا بغض النظر عن أي شيءٍ آخر، ومن دون أن تضع في اعتبارك موافقة الناس أو مخالفتهم لما تقوله وتفعله، فإذا قَصَدت موافقتهم لك كنت بذلك حريصًا على إرضائهم، وهذا يتناقض مع الإخلاص، وإذا قصدت مخالفتهم كنت بذلك حريصًا على التفرد والشذوذ في الرأي؛ وهذا يتناقض مع الإخلاص أيضًا. وقد يخطيء المرء مع هذا فيما يراه حقًّا وصوابًا وقد يصيب، لكن الإخلاص أمرٌ تحسه القلوبُ ولا يُدرك بالحواس، وتبقى هذه الفضيلة فوق كل فضيلة. ومن بين وجوه السياسيين الكثيرة التي تملأ الساحة فأنا لا أشعر بتحقق هذه الفضيلة النادرة في أحدٍ أكثر مما أشعر به تجاه رجلين –مع احترامي للكافة-: الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل، والدكتور محمد البرادعي. ظهر الشيخ حازم في لحظةٍ كانت الفجوة فيها بين الإسلاميين والثورة قد تعمَّقت وازدادت اتساعًا عقب أحداثٍ كثيرة يطول ذكرها بتفصيل، منها الاستفتاء المشؤوم، ومنها مليونية 29/7، ومنها كثير من المواقف المتخاذلة من بعض الإسلاميين تجاه الثورة والثوار، وكثير من المواقف المتشنجة الحادة من بعض الثوار تجاه الإسلاميين، وغير ذلك مما قُصد به ونتج عنه إيجاد تلك الحالة المزرية من الاستقطاب والتنافر والتراشق بين الجانبين، بحيث بدت هذه الفجوة وتلك الهوَّة عصيَّةً على الردم والإصلاح. كان الإسلاميون على وجه العموم، وشبابهم على وجه الخصوص يحتاجون إلى رجلٍ منهم يثقون به ويقدِّرونه ليؤكد لهم أن هذه الثورة ضرورية وحسنة ومُحقة ومشروعة، وليست شيئًا كريهاً مخيفًا كما كان بعضهم يعتقد، وأن مكانهم مع الثوار في الميادين لا مع السلطة في البرلمان. فكان أن صدع الشيخ حازم -الذي يحظى بالاحترام والقبول في أوساط الإسلاميين- بالحق الذي لا مراء فيه، وشرع في إصلاح موقفهم من الثورة، وترميم علاقتهم بها، وجذبهم إلى صفوفها، وتبصيرهم بكثيرٍ من الحقائق التي كانت غائبةً عنهم أو مغيَّبةً عنهم. ونجح في سعيه المحمود هذا نجاحًا مبهرًا، وصنع بذلك جسرًا متينًا بين شباب الإسلاميين وشباب الثورة، ورأب صدعًا هائلاً ربما كان كفيلاً بجعل الثوار في موقفٍ أسوأ كثيرًا مما هم عليه، وعالج هذا الشرخ المخيف في جدار الثورة ببراعةٍ فائقة، وسدَّ ثغرةً لعلَّ أحدًا لم يكن ليقدر على سدِّها إلا مثله، لأن الذين توجه إليهم بخطابه شعروا فيه -كما شعرت أنا- بالإخلاص، الذي هو عزيزٌ ونادر. وأزعج الشيخ حازم بصنيعه هذا أشخاصًا كثيرين، أزعج السلطة الحاكمة في البلاد بالطبع، التي كانت تراهن على ترويض الإسلاميين واستقطابهم، والتي كانت حريصةً على إحداث تلك الهوة بينهم وبين الثورة والإبقاء عليها، وأزعج كثيرًا من غلاة العلمانيين الذين أرادوا أن تبقى الثورة خاليةً من أي وجهٍ إسلاميٍّ بارز، وأن تبقى حكرًا عليهم وكأنهم المتحدثون الرسميون باسمها، كما أزعج كثيرًا من الإسلاميين أنفسهم، من قيادات السلفيين والإخوان وغيرهم، الذين كانوا حريصين على ألا يُروا أنصارهم وأتباعهم إلا ما يَرَون، وألا يسلكوا إلا الطريق الذي يرسمونه لهم، لأنهم بذلك يهدونهم سبيل الرشاد الذي لا رشاد بعده ولا رشاد غيره. كما أنه وضعهم في مأزقٍ كبيرٍ فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، لأن كثيرًا من أنصارهم صاروا من أنصاره ومؤيديه بالضرورة، بحيث لن يسعهم سوى تأييده ومناصرته حينما تأتي الانتخابات وإلا فقدوا مصداقيتهم، بينما كان بعضهم يفضل الانتظار حتى يفصح المجلس العسكري سرًّا أو علانيةً عن مرشحه المفضل كي يسارعوا إلى مباركته وتأييده، أو عدم اعتراض طريقه إلى كرسيِّ الرئاسة في أحسن الأحوال. هذه هي القيمة الحقيقية للشيخ حازم التي يصر بعضنا على التعامي عنها والتغافل، سواءٌ أتَّفقنا معه أم لم نتفق في بعض الجزئيات. أعلم أن كثيرًا من غير الإسلاميين ينقمون عليه تمسكه بثوابته الإسلامية ومناداته بتطبيق الشريعة، ونحو ذلك مما يباعدهم عنه. ولا أملك سوى أن أقول لهؤلاء: إن رجلاً صريحًا فيما يريده ويعتقده ويؤمن به، ثم يترك لكم بعد ذلك حرية الاختيار والقرار هو بكلِّ تأكيد خيرٌ ممن يداهن ويراوغ، ويدور ويلتف، ويُظهر شيئًا بينما يضمر في نفسه أشياء أخرى. والصراحة والوضوح شيءٌ يُحتَرم ولابد، لأنه من علامات الإخلاص ودلائله، حتى وإن اختلفت مع صاحبه في هذا الأمر أو ذاك. إنني أعتبر الدور المذكور الذي قام به الشيخ حازم -وما زال- مظهرًا من مظاهر العناية الإلهية بهذا البلد وهذه الثورة، وهي العناية التي أؤمن بها إيمانًا راسخًا وأعتقد فيها اعتقادًا جازمًا. أتذكر أني في الجمعة التي أعقبت موقعة الجمل ذهبت إلى ميدان القائد إبراهيم قبل الصلاة بساعتين، وكان الجو شديد البرد والمطر، والناس خائفين متوجسين، وكان عددنا ساعتها لا يتعدى الخمسين شخصًا. فتقدَّم إليَّ شابٌّ وقال: أخشى ألا يأتي الناس، وأن تفشل المظاهرة بسبب هذا الجو القاسي، فأجبته على الفور: لا تقلق، سيتوقف المطر وتُشرق الشمس بإذن الله. وما هي إلا ساعة حتى توقف المطر وأشرقت الشمس، وصار الجو من أحسن ما يكون، وتدفق عشرات بل مئات الألوف إلى الميدان، وأصبح اليوم من أجمل أيام الثورة وأقواها. ستنجلي العاصفة وتُشرق الشمس بإذن الله، وحتى إن لم يفز الشيخ حازم في هذه الانتخابات أو في أية انتخاباتٍ كانت فسأظلُّ أُحب هذا الرجل وأحترمه وأعتزُّ بإخلاصه.