ابن أختي عمرو ذو الاثني عشر عاماً، ذلك الصبي الذي مازالت ملامحه وسلوكه تترنح بين الطفولة والمراهقة، تختلط عليه سمات شقاوة الشاب الصغير مع براءة الأطفال المرحين. في جلسة عائلية، بدأ يحكي باسترسال عن قصة لم أفهم تفاصيلها ولا أحداثها، فطلبت منه أن يعيد ويفهمني الأمر كله من البداية وبالتفصيل الممل. كانت أول جملة قالها عمرو والتي أثارت فضولي: «الشيخ أسامة أخد الولاد النهاردة ماجيك لاند علي حسابه»!! من هو الشيخ أسامة، ومن هم الأولاد، ولماذا يذهب الشيخ بالولاد إلي ماجيك لاند؟.. تساؤلات متلاحقة أمطرتها علي عمرو، وقد بدأ يرد عليّ بمنتهي الهدوء رغم أن نبرة صوتي المنزعج قد فضحتني لديه قليلاً لكنه لم يهتم أو علي الأرجح تجاهلها. قال لي: «ده شيخ في الجامع إللي جنبنا، هو مش شيخ أوي، ده شاب في تانية جامعة «في كلية علوم»، بيجتمع بينا بعد الصلاة وبيكلمنا عن الأخلاق وضرورة العطف علي الصغير واحترام الكبير و.... حاجات شبه كده!! ولما بيلاقي الولاد مستجيبين معاه وبيسمعوه وبيحترموه، بيشتري بسكويت أو بيعزمنا علي حاجة ناكلها مع بعض!!!!! النهاردة بعد الدرس قرر إنه يلاعبنا «لعبة المنديل»!!! قاطعته: يلاعبكم فين؟ عمرو: في الجامع!! قلت له بنوع من الاستنكار وكأنني أريد تعميقه: «طب وعقلك ماقلكش إن المسجد مش مكان للعب.. إيه الهبل ده؟» بدأ الجدل وبدأت مداخلات أفراد الأسرة: قال أخي: «والله أنا شايف إن الشاب معملش حاجة وحشة، هو بيحاول يحفز الولاد علي الدروس، يمكن يكون بيحاول يحببهم في الدين بشكل يناسب سنهم»، وأسهب أخي قائلاً: «ياريت كل الشيوخ وعلماء الدين يعلموا الأطفال صحيح الدين بالروح المرنة والمتساهلة إللي فيها ترغيب مش ترهيب. كلام أخي منطقي ومتوازن فقلت له: «يمكن تكون بتتكلم صح جداً لكن الحقيقة إننا في الزمن ده مش لازم نعطي الأمان أوي حتي لو جوه المسجد، إنت مش شايف إنها غريبة شوية» بسكويت وعزايم وبيطلعهم رحلة لماجيك لاند علي حسابه؟ ثم توجهت بالسؤال لعمرو: مش غريبة يا عمرو؟ قال لي بنفس الهدوء أو «البرود»: معرفش، بس عموماً أنا ما حضرتش الدرس غير مرة واحدة بالصدفة « هي المرة إللي أخدت فيها بسكوت... وخلاص... إيه المشكلة؟ قالت أمي: بس أنا قلبي مش مرتاح للحكاية دي، وبعدين ده ما اسموش شيخ، فين خبرته ودراسته... ده لسه صغير جداً؟ في سري قلت: وهناك شيوخ حاصلون علي المؤهلات والشهادات ورخصة الدعوة لكنهم يبخون سماً في العسل ويشوهون ويشوشون الفكر ويربكونه خاصة الأطفال والشباب الصغير. تدخلت أختي «والدة عمرو»: عموماً... إنت ممكن تحضر الدرس وتيجي تقولنا إيه الموضوعات إللي اتكلمتوا فيها بالتفصيل ونتناقش علشان لو فيه معلومة ممكن إحنا كمان نستفيد بيها يبقي إنت كسبت خير فينا، مش إنت عارف إن قيمة العلم إنه ينتفع به، يعني تستفيد وتفيد به الآخرين، ولو فيه معلومات مش متأكدين من صحتها نبقي نبحث فيها مع بعض. وجدت أن رأي أختي كان الأكثر موضوعية وتهدئة للموقف الذي كبر فجأة وربما أكون أنا السبب في تحميل الموقف ما لا يحتمل. بمنتهي التلقائية والذكاء الذي تتمتع به ابنة أخي وكأنها قد لقطت خيط مخاوفنا وجدلنا الذي يخفي وراءه هواجس نتحدث عنها من بعيد ولم نعلن عنها صراحة قائلة: « غريبة شوية، بسكوت وماجيك لاند...طب إيه المقابل؟ ارتبكت وتأكدت أننا سلكنا في ذلك الحوار العائلي مسلكاً غير متحضر وغير تربوي بالمرة. ارتبكت من قصة عمرو عن الشيخ الذي وددت أن أراه بنفسي لأحكم عليه، زاد ارتباكي عندما قال لي عمرو مداعباً بخفة ظله الماكرة: «لو إنتي قلقانة اعملي تحرياتك عنه».ارتبكت من المناقشة التي أعلن فيها كل منا رأيه بمنتهي الانطلاق دون وضع خطة لصياغات مناسبة لمخاطبة عقول الأطفال - الذين أظن أنهم يمثلون علينا مسرحية الطفولة - ارتبكت أكثر من التعليق المباشر والصريح الذي أطلقته ملك ابنة أخي وكأنها تقول لنا: جيبوا م الآخر بلاش لف ودوران... عاوزين تقولوا إيه؟ حاولت أن أجيب م الآخر وقلت لعمرو: باختصار يا عمرو إنت كبير وفاهم...لازم يكون فيه حدود بينك وبين الناس حتي لو كانوا شيوخ أو حتي ملائكة علي الأرض.. طبعا فاهم...ما تخافوش..أنا مش عارف انتوا قلقانين أوي كده ليه؟ قالها عمرو ببساطة، لكنني في الوقت نفسه اكتشفت مدي ذعري وهلعي من التغيرات التي أصابت المجتمع، لُمت نفسي من تصدير حالة عدم الأمان لهذا الصبي الذي علينا أن ندربه علي خوض الحياة بمنتهي الشجاعة لا الخوف، لُمت نفسي ربما لأننا أدرنا الموضوع بعصبية وحرص زائدين. خفت أكثر لأنني تأكدت أن أخطر ما يواجهنا في هذا المجتمع أننا لا نتحدث بشكل مدروس وعلمي وناضج ومتحضر مع الأطفال، وأننا نمارس اللف والدوران مع أولادنا، إننا نصيبهم بالهلع والخوف بدلاً من أن نمنحهم القوة والقدرة علي الدفاع عن النفس، تأكدت أننا لم نعد واثقين في هذا المجتمع، شكاكون، والويل لمجتمع لا يشعر بالثقة المتبادلة بين مواطنيه وحكومته وبين ناسه وناسه. في لحظة ما شعرت بخطر قادم علي أن أكون مستعدة له.. هل أنا قادرة علي حماية ابني من المجتمع؟ هل سيقوم المجتمع نفسه بحماية ابني؟ الإجابة الوحيدة التي طرأت في ذهني هي: «كل واحد فينا عايش في هذا المجتمع باجتهاده الشخصي». يعني باختصار: مفيش ضمانات... إنت ونصيبك!!