انتهينا فى المقال السابق الى ان اللحظة الفارقة التى وصلنا اليها فى 25 يناير 2011 هى لحظة الفرصة الجديدة التى آهداها الينا القدر بتراكم الأشياء وبتفاعل الأحداث حتى فتح الله علينا وتم التغير بأيدينا و خلعنا مبارك وعصابته وان بقى جزء منها "متبت فى الكرسي ومش راضى يمشي". الشاهد اننا امام لحظة شديدة التعقيد لأن التغيير لا يجرى فقط فى مصر ولكن قلب العالم العربي كله منفجر من تونس وليبيا الى اليمن وسوريا ثم ان الأطراف فى البحرين وسلطنة عمان والعراق والمغرب والجزائر بها من الحراك الكثير وان لم يسلط عليه الضوء بالقدر الكافى. هيا مسألة وقت وسنري انفجرات آخرى فى مناطق مختلفه من العالم العربي. (السودان اصبح دولتان). ثم ان العالم من حولنا يشهد تغيرات كبرى بعد الأنهيار المالى الذى ضرب الولاياتالمتحدة ونظامها المالى وبات من الواضح ان موازين القوى على (الآقل المالية) تنتقل من الغرب الى الصين والسعودية مع بزوغ قوى اقتصادية مثل الهند والبرازيل وتركيا. اللحظة الفارقة التى نعيشها الآن تتمثل فى التقاء لحظة التغيير بالداخل المصرى، مع التغيير فى المحيط الأقليمي وكذلك التغيير فى الجارى عالميا كلا فى آن واحد! واصبح من المتعذر ان نرى من كان الأصل فى التغيير ومن كان التابع! الشاهد اننا نعيش فى عالم بلا نموذج اقتصادى جديد ملهم، فلا الرأسمالية نجت ولا البديل ظهر بعد! ثم ان العودة الى مفاهيم قديمة اقتصادية كانت او سياسية هى سمت اللحظة الراهنة حتى ان العدالة الأجتماعية (الأشتراكية) اصبحت هى شعار المرحلة. ثم ان العالم الآن يدرك اننا امام مستقبل يولد وان لم يبدو الا القليل من ملامحه التى تتشكلا بتفاعلات حركة البشر. قبل ان نصل الى التفاصيل السياسة عن اللحظة الراهنة وجب التنبيه الى ان جيلنا محظوظ لأننا نعيش بوعى وآدراك فى لحظة فارقة كهذه التى نحيها ويجب ان نتذكر ان الوقت لا ينتظر فأما ان ندرك اللحظة او يأكل علينا الدهر ويشرب! ثم يستدير الزمن حتى يأتى بلحظة آخرى مهداه الى جيل آخر، وهكذا. التاريخ لا يبالى كثيرا بأن يهلك "قد كام" جيل الى ان يعي الناس ويدركوا قيمة لحظة الولادة ولحظة الأمل. الوضع الآن فى مصر المحروسة ومحيطها الآقليمي هو ان المنطقة كان بها مشروع ولد بسوريا فى القرن التاسع عشر وكان له ارباب من الشعراء والمفكرين والأدباء وكانوا على درجة عاليه من الوعي بقوميتهم جراء وقوع تركيا و الدولة العثمانية على حدودهم الشمالية مباشرة. ثم ان الأقدار شأت ان يعبر ابراهيم باشا الفاتح الى تركيا عبر الشام ويتقابل الفاتح العظيم ذو الرؤية المستنيرة ابن الباشا الكبير مع ارباب القومية فى الشام ثم تدور مراسالات بين الأبن والأب عن تلك القومية التى رأها ابراهيم باشا. ثم تدور الأيام حتى تصبح القومية شعور عام سائد فى المنطقة حتى جاء يوما وتم انشاء جامعة الدول العربية بمبادرة من الملك فاروق واخوانه من زعماء العرب. ثم ان ناصر ورفاقه ورثوا فاروق واخوانه و تبنوا مشروع القومية العربية وجسدوا طموحاته حتى باتت القومية هي مشروع المنطقة الأول وحائط الصد المنيع الذى اندحرت على اسواره نظرية النيل للفرات وباقى تخاريف ال صهيون. ثم ماذا؟ ضرب ناصر فى 1967 وانهزمت القومية و بدأت رحلة الأفول من يومها الى ان سقط المشروع بالكامل من ضمن من سقط اثناء حراك الربيع العربي. لاحظ عزيزي القارئ ان بعض الساسة ومنهم مرشحوا رئاسة (للأسف) يتبعوا ما يقوله الغرب عن ما يجري فى بلادنا وكأنه الحقيقة المطلقة! فنحن نعلم ان بوش وعصابته اطلقوا علينا مفاهيم ومطلحات كجزء من حرب نفسية بعد ان بات المسلمون والعرب هم العدو الأول لامريكا بعد سقوط الشيوعية والسوفيت. الفوضى الخلاقة هي مصطلح بلا معنى ولا قيمة وتجاوزته الدرسات الأكاديمية بكليات السياسة بالغرب. لكن يبدو ان الكثير من ساستنا لم تصله النظريات والمفاهيم الجديدة. الآن هناك نظرية اسمه كرة الركت او كرة التنس وهى تقول ان بوش ضرب كرة التنس بقوة فى العمود المتبقى من "القومية العربية" المتمثل فى العراق فأنهارت المنطقة. يقولون فى الغرب "كذبا" انها فوضى وانها خلاقه" ويصدقهم عندنا قطاع جماهيري عريض وعلى رأسهم مفكرين وآدباء وساسة واحد مرشحى الرئاسة! فى حين ان كل هذا هراء وان الحقيقة فى كلمتين: لقد كان الغرب يحارب القومية العربية ولا يريد لها ان تقوم لأن قيام العرب واتحادهم (وليس توحدهم) فى منظمة واحدة كفيل بتغير موازين القوى فى العالم واعادة تشكيل الخارطة السياسة. ولما كان للعرب من الموارد البشرية والعقلية والفتية والشبابية والطبيعية ما تفوق به اى منطقة اخرى فى العالم وجب الا تترك هذه المنطقة خارج نطاق السيطرة. سقطت اذا القومية العربية كمشروع وبقيت كتيار والآن اصبحنا بلا مشروع نابع من الذات فحدث جراء هذا السقوط ثلاثة اشياء فى آن واحد. الأول، ان العربى لا يستطيع ان يعيش بلا مشروع جامع فى عالم متغير فالتجاء على الفور الى خط الدفاع الأخير وهو الدين! (لاحظ ان ارباب مدارس اليسار والليبراليين والقوميين هم ايضا يدينون بدين الأسلام بمن فيهم من مسيحي الديانة ومسلمي الوطن). الأمر الثانى ان الولاياتالمتحدة واوروبا واسرائيل اللذين فقدوا كنزهم الأستراتيجي وحلفائه تحركوا بكل سرعة من اجل استغلال الربيع العربي لكي لا تموت خططهم! من السذاجة بمكان ان يتوهم احد انه يعرف الطريقة التى يستغل بها الغرب واسرائيل الربيع العربي والا اصبح من السهل ضرب الأستغلال فى مهده! وبالتالى لم يعد امامنا الا التحليل! ومن هذه الزاوية نقول، ان الولاياتالمتحدة و اسرائيل لا يوجد عندها مانع من بزوغ التيار الأسلامي فى المنظقة وهيمنته على السلطة لأن الولاياتالمتحدة واسرائيل تريدا ان يستعملا الدين الأسلامي فى ضرب الدين الأسلامي واعادة احياء خلافات تاريخية اكل الدهر عليها وشرب. فى حرب الخليج الأولى فشلت محاولة ضرب ايران عن طريق فارسيتها امام عربية العراق. وانا أتت تلك الطريقة ببعض الثمار وقتها، الا انها الآن لا تصلح كأساس للمعركة. وانما الأصلح هو اعادة احياء الصراع السنى الشيعي من جديد وما اسهل ذلك بين ارباب مدارس متشددة كالسلفية الذين لا يطيقون اى اختلاف معهم فى المذهب (راجع تجربة السعودية الوهابية وايران الأمامية وعلاقتهما ببعض). حتى ان السعودية لم تخرج لحرب تذكر يوما ما الا عندما ضربت الحوثيين (الشيعة) فى شمال اليمن وانقضت على ثورة البحرين (الشيعية) بعسكرها فى ثانى خروج للعسكر السعوديين خارج حدود المملكة. اذا نحن امام تحليل يتوجه بنا الى ان الأسلام هو الحل لكن السلفيين والأخوان هم المشكلة لأن مشروع الغرب الآن لضرب الربيع العربي متمثل فى خطة اساسية وهى اعادة احياء الصراع المذهبي بين ابناء الدين الواحد! لماذا كل هذا؟ لأن الغرب يريد ان يمهد الطريق بينه وبين الشرق (وليس الشرق الأوسط) لأن الشرق به الكتل السكانية الكبرى التى عليه ان يتعامل معها وهى كتل سكانية آخذه فى النمو والتفوق وتراكم الثروة حتى ان ميزان العالم المالى ينتقل اليها بالتدريج وان بقى لون الدولار الأخضر هو السائد. نحن بالنسبة للغرب دول الفجوة التى تقع على اطراف محاور العالم الأساسية وحدث بالصدفه اننا قوما نعيش على ارض بها شيئا يحتاجه العالم وهو مورد الطاقة الأكثر فعالية الى الآن ولمدة قادمة. ثم مرة واحدة وجد الغرب اننا لسنا دول فجوة وان جيل حر قفذ فى صدارة المشهد اوننا آخذون بزمام المبادرة وان "مش كل حي يتاكل لحمه"... فكان ان الغرب قراء المشهد جيدا وعرف ان الملعب ليس به لاعبون فقط وانما به كرة ايضا وهو يريد ان يشوط كرة الأسلام السنى لضرب الاسلام الشيعي وينتهى الربيع العربي الى صراع مذهبي.. أرجوا ان تلاحظ عزيزيى القارئ ان الخط الساخن للمواجهه لا يقع فى منطقتنا وانما يقع فى المحيط الهادى وبالتحديد فى الخط الفاصل بين كلا من روسيا والصين ومن انحاز لهما من ناحية وبين امريكا وكندا واليابان وكوريا الجنوبية ومن انحاز اليهما. فلا وقت امام امريكا وحلفائها لتضيعه فى معركة بالشرق الأوسط وانما تريد ان تعتمد وكيل محلى سريعا ليضمن لها الضبط والربط فى المنطقة (ويكون ذراع اسرائيل اليمنى او كنزها الأستراتيجي الجديد) لتتفرغ هيا الى الخط الساخن نحن نعيش لحظة الفرصة الجديدة وهى بالغة التعقيد ولا يوجد بها حلول جاهزة وانما قدرنا ان نجتهد حتى نصل الى حلول حقيقية للمشاكل التى تركها مبارك وسياسته وللتوق على تحديات الأقليم والنتصار على الآرادة السياسية الغربية التى تريد ان تسرق حلمنا كما تسرق مواردنا ليل نهار.ان ميادين التحرير فى مصر المحروسة لها مشروع سيترجم الى واقع عما قريب، فنحن جيل مصرى الوطنية، عربي التوجه اسلامي الهوى وافريقي المكان. نؤمن ان المشروع الصهيوني فى المنطقة الى زوال وان جيلنا يستطيع!