ترسخ فى الأذهان وإتضح للجميع إذن أن ميدان التحرير مازال يمثل رمانة الميزان ونقطة التحول الرئيسية فى المسار السياسى للدولة المصرية فيما بعد الثورة، لما له من تأثير واضح على جميع التغيرات والتحولات الجوهرية التى تطرأ على الساحة السياسية وعلى مراكز القيادة، بل وعلى الخطة الموضوعة لإدارة شئون البلاد خلال المرحلة الإنتقالية بصفة عامة. فإتخاذ القرار بالنزول إلى الشارع والعودة مجددا إلى ميادين التحرير فى جميع ربوع الوطن لم يمثل إلا الورقة الأخيرة التى لجأ إليها الثوار للتعبيرعن الإستياء والدجر الذى أصابهم جراء تصميم المجلس العسكرى على الوقوع فى نفس أخطاء النظام السابق، وبالتالى كان على المجلس العسكرى أن يواجه إندلاع الموجة الثانية من الثورة والتى تنادى صراحة – هذه المرة – بإسقاط المشير طنطاوى، وإبعاد المجلس العسكرى عن الحياة السياسية. والحقيقة هى أن المجلس العسكرى – على ما يبدو – قد تعمد إغفال وجهة النظر التوافقية التى ترى أن طرح وثيقة دكتورعلى السلمى للمبادىء الدستورية فى هذا التوقيت قد تؤدى إلى تفخيخ المشهد السياسى، وخاصة مع إقتراب المرحلة الأولى من الإنتخابات البرلمانية، ومن ثم فإن المجلس قد إرتأى ضرورة الإسراع فى تمرير هذه الوثيقة بما تحمله من وضع خاص للقوات المسلحة فى الدستور الجديد وبما تتضمنه من تمييز لها كحام للشرعية، وأيضا تمتعها بأفضلية مؤسسية فيما يتعلق بشئون الميزانية. أضف إلى ذلك إصرار المجلس العسكرى على الإبقاء على منصور العيسوى وزيرا للداخلية، وإجراءه بعض التعديلات الشكلية التى تحافظ فى مضمونها على تشكيلة نظام مبارك داخل الوزارة بما تحمله من سيكولوجيات عدائية وعقيدة أمنية تقتصر على سادية قمعية مبالغ فيها إلى حد بعيد، ظهرت مؤخرا فى أحداث ميدان التحرير وشارع محمد محمود، والتى تبلورت فى محاولة بقايا النظام البائد الإنتقام من الشعب المصرى الذى أطاح به فى يناير الماضى من جهة، ودفاع هذا الشعب عن ثورته وسعيه للوصول بها إلى بر الأمان من جهة أخرى. جاءت محاولات العسكرى لتهدأت الأوضاع ونزع فتيل الأزمة متمثلة فى إقالة حكومة شرف ووضع جدول زمنى يتضمن تواريخ محددة لنقل السلطة فى 30 يونيو القادم وإسناد مسئولية الوزارة إلى رجل ينتمى إلى الماضى لتشكيل حكومة تكون مهمتها الرئيسية وضع القواعد الأساسية للعبور بالوطن وبثورة شعبه إلى مستقبل أفضل.. جاءت بما يخالف جميع توقعات القوى الثورية التى تنظر إلى تعيين الجنزورى رئيسا للوزراء بمثابة محاولة أخيرة من المجلس العسكرى للحفاظ على ما تبقى من نظام سقط بالفعل على المستوى الشعبى، ولكنه مازال يمتلك أدوات السلطة فعليا ورسميا. تبلورت أيضا نوايا المجلس العسكرى فى نص الخطاب الذى ألقاه المشير ظهر أمس والذى يتحدث عن نية القوات المسلحة فى الحفاظ على الصلاحيات التى أوكلتها إليها الدساتير السابقة . فإذا عدنا إلى نص المادة 180 من الفصل السابع الخاص " بالقوات المسلحة ومجلس الدفاع الوطنى " من دستور 1971 على سبيل المثال، والتى تنص على " الدولة وحدها هى التى تنشأ القوات المسلحة وهى ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها وحماية مكاسب النضال الشعبى الإشتراكى..."، سوف يتضح لنا أمران هامان : أولا : أن القوات المسلحة قد قررت التنازل عن الوضع الخاص الذى كانت تسعى لأن تحظى به فى الدستور الجديد فيما يتعلق بشئون الميزانية والمساءلة التشريعية والقانونية، مع الإحتفظ بما تراه حقها فى الدفاع عن الشرعية والمكتسبات الثورية. ثانيا : فاعلية التظاهر والإعتصام فى ميادين التحرير كأداة يمكن اللجوء إليها دائما للضغط على المجلس العسكرى وحكومته فى سبيل إنتزاع الحقوق وتحقيق المطالب الثورية المشروعة. ولكن فى الواقع، فإن إصرار المؤسسة العسكرية على الإستحواذ على حق الدفاع عن الشرعية وحماية مقدرات الدولة المدنية وعدم إسناد هذه المهمة إلى صاحبها الحقيقى وهو الشعب سوف يدخل بالثورة إلى العديد من المتاهات وكثير من المشكلات التى تتعلق بالسيادة والشرعية المنتقصة التى سوف تؤدى بنا فى النهاية إلى النموذج العسكرى التركى، والذى إستمر منذ عهد أتاتورك وأدى إلى إنعدام إستقرار الحكم سياسيا وإقتصاديا فى صورة إنقلابات عسكرية وعزل وزارات وتغيير أنظمة بالقوة طالما أن المؤسسة العسكرية لم تكن راضية عنها، حتى جاء أردوجان بالتعديلات الدستورية الشهيرة فى 2009 والتى أتت بمثابة إنقلاب مدنى على الدولة العسكرية التى كانت تسيطر على الأوضاع هناك. نعود إلى التحرير مرة أخرى، فقد جاء موقف القوى السياسية والحزبية المختلفة ليشوبه نوع من التخبط والإرتباك، الذى إقتصر على الشجب والإدانة لكل ما يحدث للمتظاهرين من قتل وإعتقال وتعذيب، مع الرهان طوال الوقت على الإنتخابات بالنظر إليها على أنها عنق الزجاجة الذى سوف يخرج بنا من هذه الأزمة، دون اللجوء إلى المشاركة الفعلية فى هذه الإحتجاجات على الأرض، وهو ما تسبب فى : 1-ظهور جميع القوى السياسية بمظهر من يسعى إلى تحقيق مصالح شخصية ضيقة من خلال الحصول على أكبرعدد ممكن من مقاعد البرلمان، وهو ما أدى إلى فقدان هذه القوى لمصداقيتها. 2-إتضاح الفجوة والفارق الكبير بين ممارسات هذه القوى للوصول إلى أهدافها والتى تتسبب عادة فى تعميق الخلاف وزيادة حالة الإستقطاب على أسس أيديولوجية وفكرية فيما بينها، بينما يتجلى لكل متردد على ميدان التحرير إنصهار هذه الخلافات – وإن وجدت بعض الإختلافات – بين الشباب المنتمين إلى هذه القوى. 3-تجدد حالة التذمر والإعتراض التى أعلن عنها الشباب مؤخرا والتى قد تصل إلى حدوث بعض الإنقسامات داخل جماعة الإخوان المسلمين نتيجة تخليها رسميا عن مطالب التحرير، وإختيارها عدم التفاعل المباشر مع الثوار، رغم أنها كانت أول من بدأ هذه التظاهرات. صحيح أن الإنتخابات التشريعية قد تمثل نقطة التحول الفارقة نحو تأسيس نظام ديمقراطى مؤسسى، ولكن ماذا بعد الإنتخابات؟!.. هل سوف توافق قوى الأغلبية فى البرلمان القادم على الرضوخ إلى نص الإعلان الدستورى الذى سحب منها حق تشكيل حكومة شرعية منتخبة، وأوكل بهذه المهمة إلى المجلس العسكرى؟!.. وهل سوف تنتظر حتى صدور الدستور الدائم فى 30 مايو القادم لتعديل صلاحيات المجلس العسكرى، ومن ثم عزل حكومة الجنزورى وتشكيل حكومة تحظى بالشرعية الدستورية؟!.. أم أنها سوف تطالب فور إعلان نتيجة الإنتخابات بصلاحياتها فى عزل الحكومة وتشكيل حكومة جديدة طبقا لتعديل فى الإعلان الدستورى؟. هل سوف يسرع المجلس العسكرى فى صياغة قانون " الإنتخابات الرئاسية " الجديدة، أم أنه سينتظر لحين إقرار الدستور الجديد الذى سوف تتحدد من خلاله صلاحيات الرئيس الجديد؟!.. أو أنه لن يفعل هذا ولا ذاك، بل سوف يطرح إنتخاب رئيس الجمهورية طبقا لقانون الإنتخابات الرئاسية الذى قام بتفصيله ترزية مبارك للقوانين؟! هذه أسئلة هامة تحتاج من المجلس العسكرى والحكومة القادمة إلى إجابات سريعة وحاسمة لما لها من تأثير مباشر على مسار المرحلة الإنتقالية والعقبات التى قد تواجه مسارها فيما بعد الإنتخابات التشريعية.. كذلك يجب على المجلس العسكرى أن يتخذ بعض الإجراءات الجدية التى قد تساهم فى تهدأت الأوضاع فيما يتعلق بتشكيل الحكومة والإفراج عن المعتقلين وإشراك الثوار فى صنع القرار، بدلا من اللجوء إلى التهديد بإنقلاب عسكرى يحمل صفة الشرعية من خلال إجراء إستفتاء شعبى حول بقاء المجلس العسكرى فى الحكم من عدمه.