كان ظهور صلاح جاهين في الخمسينيات بمثابة ثورة في كتابة الأغنية. قبل جاهين كان الشعراء يلفون ويدورون حول معني واحد رئيسي لا يتغير هو تمجيد الذل والهوان في الحب، وتعظيم قيمة السماح والغفران للحبيب الغادر، مع بيان صور من قسوة الحبيب وهجرانه ومقابلته للحب بالصد والترفع. وكنموذج لهذا غني عبد الوهاب: أحبه مهما أشوف منه، وغنت أم كلثوم: عزة جمالك فين من غير ذليل يهواك، كما قال فريد الأطرش: الحب من غير أمل أسمي معاني الغرام. لهذا كان خروج صلاح جاهين علي الناس بكلام جديد ومختلف شيئاً بالغ الأهمية، خاصة مع بزوغ فجر ثورة يوليو التي بشّرت الناس بالمساواة ومنحتهم فرصة معانقة معان جديدة في الحب والحياة. وقد فاجأ جاهين الناس بأغنية بديعة لحنها سيد مكاوي وغنتها سعاد محمد عنوانها «أحسن» تقوم فيها المحبوبة بتهديد الحبيب الغادر بأنها سوف تتعافي بسرعة من غدره وتجد لنفسها حبيباً أحسن منه!. وبعدها استمر العبقري جاهين علي ذات النهج فخرج علي الجمهور بواحدة من أجمل ما غنت فايزة أحمد وأروع ما لحّن كمال الطويل وهي أغنية: «ياما قلبي قال لي لأ» وهي أغنية كشفت ليس فقط عن براعة جاهين كمؤلف مبدع ، وإنما أيضاً عن عظمة كمال الطويل في لحنه البسيط الاَسر. تقول الكلمات:« ياما قلبي قال لي لأ.. وأنا ألاوعه. لما قلبي انشق شق.. قلت أطاوعه. كلمة مني كلمة منه.. اللي خاني تُبت عنه. حتي لو يوم قلبي رق مش ح اطاوعه». أرأيتم كيف تغلبت الحبيبة علي مشاعرها وكيف امتلكت زمام نفسها وأخذت القرار بعدم الغفران والسماح؟.. تمضي الغنوة الجميلة بعد ذلك «كل نوبة بتوبة ويقول لي سماح. يبقي قلبي يقول لي لأ دا خاين. أنسي حسرة قلبي وأطوي له الجناح، والدموع تجري وغدري ف عينه باين. أنسي ساعة ما يصافيني، وافتكر لما يجافيني. خلي حبي لحد تاني، حد يستاهل حناني. حتي لو يوم قلبي رق. مش ح أطاوعه» تتحدث الفتاة المغدورة عن الآلية التي تتم بها معالجة الأمر كل مرة حيث يخطئ الحبيب في حقها ثم يأتي معتذراً طالباً العفو ومطمئناً إلي تسامحها اللانهائي.. لكنها تفاجئه هذه المرة وتعلن أنها لا تصدق حججه الكاذبة ولا تطمئن إلي صدق توبته فتقوم بشحن نفسها بالغضب وتتعمد نسيان ساعات الصفاء والود، وتتذكر فقط أوقات الجفاء حتي تسهل علي نفسها القرار الصعب وتقنع نفسها بصحته. وتُكمل فايزة أحمد: «لو مشيت لي خطوة ح أبعد خطوتين، ياللي من غير قلب سيب قلبي ف عذابه. كنت فين من بدري قل لي كنت فين، واحنا الاتنين حبنا لسة ف شبابه. دبلت الوردة الجميلة، ما بقاش في يدي حيلة.. خلي حبي لحد تاني.. .. » هنا تستكمل الحبيبة عزمها علي المضي في سكة الهجر المضاد بلا رجعة. و في المقطع الثالث تشدو فايزة قائلة: «يا ليالي خبّي حبي، في بحورك البعيدة يا ليالي. أنا حبيته وما قدرتش أخبي، وعاهدته وهو خيّب لي اَمالي. بكرة حايجرب أسايا، وأنا باتهني بهوايا. خللي حبي لحد تاني، حد يستاهل حناني. حتي لو يوم قلبي رق مش ح أطاوعه».. هنا تتجلي خيبة أملها في الرجل الذي وثقت به فخذلها، لهذا فهي تتوعده بأنه سيشرب مما سقاها ويجرب الأسي والخيبة في الحب.. في الوقت الذي ستكون قد التقت بحبيب اَخر يعوضها ويمنحها ما تستحقه من هناء وسعادة!. رحم الله العظيم صلاح جاهين ورحم فايزة أحمد وكمال الطويل.