منذ عدة أيام وجدت علي أحد المنتديات درساً دينياً اسمه «أنت لسه بتسمع مزيكا»، عنوان الدرس جلب لي بعض الذكريات الماضية، لم أستمع للدرس ولكني تذكرت بسبب عنوانه الكثير... متي بدأت تلك اللوثة الدينية؟ لا أدري كنية العام ولكن أتذكر من طفولتي وذكرياتها المشوشة وصورها غير المكتملة، البنوك الإسلامية وربما اكتشافنا لاحقاً لكذب أصحابها، العائدون من دول النفط حاملي المراوح وشنطة النقود السوداء الجلدية الصغيرة تحت إبط أحدهم، وزوجته المنقبة وأولاده الأغبياء حاملي أطنان الوزن والسمجين في نفس الوقت، المسلسلات التي تؤكد فكرة أننا أصبحنا غارقين في بحر من الفساد والبحث العبثي عن أيام زمان... وأذكر من تلك الفترة أغاني عمرو دياب ومصطفي قمر وعلاء عبد الخالق الجميلة التي كنا نحفظها عن ظهر قلب، لدي رؤيتي لها الآن اكتشفت كيف يمكن أن يكون الغناء مضحكا حقا...لكنها كانت جميلة لأن من يسمعونها كانوا يرونها كذلك فالجمال دوما في عين الرائي، المدارس المختلطة والحياة ذات المشاكل القليلة والقضايا العقلية البسيطة.. وظهرت قضية مرحلة الإعدادية، هل الغناء حلال أم حرام؟؟ ولم يستطع أحد وحتي الآن إجابة هذا السؤال، فالموضوع يحتوي علي صناعة ومصالح وغيره، وبدأ النظر لكائن الووكمان بأنه السبب في جلب الشرور للأرض وسبب الفساد والانهيار الأخلاقي الذي نحن بصدده... وظهرت الإجابات الهلامية فالموسيقي من وحي الطبيعة وما نسمعه هو تطوير وتوظيف جديد لها، ونحن لا نفعل بذلك شيئا خاطئا، الغريب أننا بالفعل كنا نشعر داخليا أننا لا نفعل شيئا خاطئا، لكن مازال هناك شعور بالذنب لا نعرف كنيته... مازلت حتي الآن أذكر واقعة تحطيم أول شريط كاسيت لحكيم وإلقائه من النافذة في حركة باسكيتية الطابع، لا أدري لماذا حدثت تلك الواقعة حتي الآن، هل لأن الغناء حراما؟ مدرس اللغة العربية في مدرستي كان رجلا شابا كئيبا، وكان ينظر لنا نحن الفتيات نظرات غريبة إلي حد ما، لكن دون الفهم الخاطئ فلم يكن يتحرش بنا، لكن نظراته كانت تحمل بعض أو ربما كثيراً من الكراهية... وكان يتوسط مقعده من الحديقة لسماع كائن الووكمان اللعين لكني يضع به شرائط قرآنية ويستمع لآيات الذكر الحكيم، وبالطبع كان هو الرجل المتدين الذي سيدخل الجنة في نظرنا نحن الفتيات صغيرات السن وكنا معجبين به وبشدة لكنه لم يتحدث لنا ويستغل الموقف فيصير فتي أحلامنا المنشود، وظل ينظر بذات الكراهية، تبينت لاحقا أن راتبه من وزارة التربية والتعليم الكافرة لا يكفيه حتي لشراء حجارة الووكمان اللعين لذا فلم يتزوج حتي آخر علمي بأخباره منذ سنوات.. إذن فماذا نسمع؟ كبار السن لم يعيروا التفاتا لتلك الفتاوي وظلوا يستمتعون بأنغام عبد الحليم وشدوه وأم كلثوم لأنه بالقطع لا يرون في امرأة تغني مثل أم كلثوم أي خطأ أو حرام يمارس علي الإطلاق.. أما نحن فظللنا نقف مكتوفي الأيدي أمام المطرب الغامض حميد الشاعري وسيمون وصغير السن مشجر القميص إيهاب توفيق؟؟؟ وقيل في هذا الشأن أن سماع الموسيقي دون مغن أو كلمات فهي حلال فاتجهنا للموسيقي الصامتة من عزف البيانو وغيره لكنها تبينت لاحقا أنها تميل القلب!!! فاتجهنا لسماع الشرائط الدينية، والغرابة في تلك الفترة، أننا كنا نستمع مشدوهين لتلك الشرائط والدروس وكأننا دخلنا في الإسلام حديثا، لاحقا علمت أن المنهج الديني للوزارة يستهدف المعاقين ذهنيا في رحلته المنهجية طوال سنوات التعليم ولأنه مادة لا تضاف للمجموع، فنحن لا ندرسه ولا نذاكره، ولا يوجد مصدر آخر للتعلم لأن شيخ الجامع يركز في الخطب علي الدعوي للسيد الرئيس، وبالتالي كان لابد لنا من التأثر الشديد بهذا الدين الجديد ولأننا لسنا علي قدر كاف من النضج فكنا نعجب بما نسمع ونحن بالفعل كنا نحياه بطبيعية غير مفتعلة طوال السنوات الماضية!! ثم عاود الصراع بين أحدث ألبوم نزل الأسواق وآخر شريط ديني، واحتدم التوتر والدعوات من أجل التخلص من تلك العادة اللعينة، دعاوي صادقة جدا من أجل التمسك بالدين والعودة الحميدة له ندعو بقوة وكأننا ندعو لتحرير القدس!!! في تلك الفترة امتد الأمر للكوتشينة والشطرنج فكلاهما يلهي عن ذكر الله، وبالتالي فاللعب بهما هو حرام، علي الرغم من أننا حين تركناهما لم نذكر الله أيضا!! وأن الصور تحمل جنا وعفاريت، هذا بعد ظهور سلسلة كتب العبقري عيسي داوود والتي قرأتها كاملا وكانت كفيلة لإقناعي لفترة لا بأس بها بأني لابد أن أقلب الصور علي ظهرها وأن الكائنات الفضائية تتربص بنا وهي السبب وراء مثلث برمودا وأني لو نظرت تحت حافة سريري ربما وجدت واحدا منهما!!! إلي أن دخول مرحلة الثانوي شهدت بوادر ظهور النقاب والدروس الدينية المكثفة في الجوامع والبيوت، وتحول الكثيرون فجأة لدعاة والكل يتحدث ويعظ ويحذر!! والووكمان مازال حبيس الدولاب وأذهب إليه من حين لآخر لسماع محمد فؤاد خلسة، حتي مرحلة الثانوية العامة التي يحذر فيها علي الطالب التنفس إلا بعد الخروج من عنق الزجاجة المسدود فتوارت القضية قليلا... المرحلة الجامعية فيما بعد كانت مليئة أيضا بمزيد من التحولات، لكن السؤال السابق عن الموسيقي والأغاني أخذ من جيلنا ست سنوات كاملة ويزيد للبحث والتخبط نحو البحث عن إجابة له!!!! ست سنوات للإجابة عن سؤال لا يحتاج لطرحه من الأساس، أنا الآن أسمع موسيقي حين أجد وقتا لهذا ولكني وبأي حال من الأحوال لن أجلس أمام قنوات الأغاني لأزداد غباء أمام ألحان غبية، مطربون ومطربات سيئوا الصوت والمنظر، وكليبات مليئة بالألوان والكلمات غير المترابطة هذا عوضا عن تطور ثقافتي الموسيقية التي جعلتني أعرف أن ما كنا نسميه غناء كان مجرد اسكتشات فكاهية قصيرة لا أكثر ولا أقل وأن الفن الذي يستحق السماع شيء آخر بالطبع... لو حدث ووجدت شابا أو فتاة يتساءل: هي المزيكا حلال ولا حرام؟ قوله روح اتعلم حاجة تشغلك واسمع مزيكا..