أتوقف لحظة عندما يسلم عليَّ أحد ثم يبادر بعدها متسائلا: عاملة إيه؟ والتردد يأتي من محاولتي معرفة مدي الجدية في السؤال.. هل هو سؤال عابر؟ كافتتاحية للحديث، مثل السلام عليكم.. عليكم السلام. أم أنه سؤال عميق يعبر عن اهتمام حقيقي؟ في أغلب الحالات لا يكون سؤالا يبحث عن إجابة، بل جملة تقريرية مثل صباح الخير.. وأحيانا يكون سؤالاً وإجابة معا، لزوم العجلة واختصار الوقت. كأن يبادرك أحد قائلا دفعة واحدة: «إزيك عامل إيه؟ كويس؟ الحمدلله؟» لا تملك إلا أن ترد: الحمد لله. المشكلة أننا نحتاج إلي سؤال غير «عامل إيه؟» نحتاج إلي سؤال حقيقي عن أحوالنا وأحوال غيرنا. أتذكر أن النجم عمر الشريف بعد عودته إلي مصر بعد طول غياب في الخارج، التقي معجبًا به عند المصعد فسأله الشاب: «وحضرتك عامل إيه؟» ولم يفهم عمر الشريف السؤال، لأنه عندما غادر مصر لم تكن تلك هي الطريقة التي يسأل بها الناس عن أحوال بعضهم البعض، كانوا في الغالب يقولون شيئا أوضح مثل: «كيف حالك» أو شيء من هذا القبيل. أعتقد لو أننا مهتمون بأحوال بعضنا البعض لسألنا سؤالا أكثر دقة.. ولوجدنا من الكلمات ما يعبر عن هذا الاهتمام.. لكن سؤال «عامل إيه؟» أشبه بالبحث عن خبر، الاهتمام في السؤال منصب علي الإنجاز والأفعال وليس الحالة، كأن تسأل من تلتقيه، أي وظيفة يشغلها؟ هل تزوج؟ كم لديه من الأبناء؟أحيانا نكون أكثر صراحة فنبادر الآخر عند السؤال عنه: «إيه الأخبار؟». استبدلنا الأحوال بالأخبار، والمشاعر بالأعمال. ورغم أن نفوسنا تتوق للتعبير والتنفيس عما بداخلها، فإنه يكون من الصعب أن تنفتح وتتحدث لأي أحد بسهولة، قبل أن نتأكد أنه مهتم بالفعل، ساعتها فقط يتدفق البوح سهلا. أعتقد أن محاولتنا عدم التطرق إلي الأحاديث العميقة وعدم مناقشة ما يشغلنا أو حتي البوح به فترة طويلة يجعله يتراكم ويتكوم ويشكل داخلنا شيئا غامضا لا نعرف أوله من آخره، لكنه يحاصرنا ويصر علي الخروج بأي وسيلة، فيظهر أحيانا في صمتنا أو نبرة صوتنا أو تعبيرات وجوهنا.. وينتظر السؤال الصحيح ليتحول إلي كلمات. نميل إلي الاختباء وراء الأسئلة الشكلية، والإجابات المحفوظة، حتي نتمكن من إخفاء مشاعرنا الحقيقية عن الآخرين سواء كانت إحباطا، أم سعادة.. ونستغرق في الانشغال بأمورنا الروتينية اليومية عن أنفسنا وعن غيرنا، ولا نفتش عما بداخلنا حتي يسألنا أحد بصدق: عامل إيه؟. ونظل نردد، متشككين في نية السائل، كل شيء تمام، الحمدلله، حتي نتأكد من جديته في السؤال. كلنا نحتاج لمن يستمع إلينا، لكننا نريد أن نتثبت من أن من نتحدث إليه يرغب حقا في الاستماع إلينا. ركبت مع سائق تاكسي كبير السن، كلما فتح حديثا معي يعتذر لي، ويقول آسف وجعت دماغك، ويصمت. فأشجعه علي الحديث مرة أخري، فينطلق: «عمري أربع وثمانون سنة، ولم أحقق شيئا في حياتي!حتي هذه السيارة أعمل عليها بالأجرة». شكا لي من جحود الأبناء بعد وفاة زوجته واحتياجه إليهم، وفي نهاية المشوار وعندما هممت بالخروج من التاكسي فاجأني بالدعاء لي: «ربنا يكفيك شر أبو رأس سودة»، قلت له: «ماذا؟» قال «البني آدم يابنتي»! ومضي. أتعجب أحيانا من مدي سهولة الحديث مع الغرباء كرفاق السفر في القطار، أو سائقي التاكسي في رحلة الذهاب للعمل أو العودة منه. كيف يروي السائق أو رفيق الطريق قصة حياته والحكمة التي استخلصها منها بل ربما يتحمس فيخرج محفظته ليريني صور زوجته أو أبنائه في رحلة تستغرق أقل من ساعة. وفي المقابل مدي الصعوبة أحيانا في التواصل مع أقرب الأشخاص إلينا. الاهتمام بالآخرين والتواصل معهم في الحالتين مثل رؤية مشهد في صورة من بعيد، ورغم ذلك يأسرك ويستحوذ علي اهتمامك. أو مثل النظر من النافذة إلي مشهد طبيعي جميل وأنت مستغرق في شرودك بعيدا عنه رغم تطلعك إليه طوال الوقت. هل نحتاج إلي تغيير كلمات السؤال أم نحتاج إلي أكثر من ذلك؟. المهتم لا يحتاج إلي طرح السؤال. الأم لا تنظر إلي رضيعها وتسأله: أنت عامل إيه؟، إنها تنظر إليه فقط وتترجم: إنه جائع، إنه يريد أن ينام..إنه فقط يريد بعض الاهتمام.