علي طريقة محصل الأتوبيس الذي كان يصيح وسط الركاب بأعلي صوته «محطة المطار السري»، تناقلت وكالات الأنباء في أسبوع واحد تقارير تفيد برغبة إسرائيل في إجراء مفاوضات سرية مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن، وكذلك رغبة إسرائيل في إجراء مفاوضات سرية موازية مع حركة حماس ..المسئولون في السلطة الفلسطينية وفي حركة حماس سارعوا بنفي قبول إجراء مفاوضات مع إسرائيل في الوقت الحالي، علي الرغم من تصريحات نتنياهو المطاطة في أعقاب زيارته الأخيرة للقاهرة. وبداية لا يمكن قبول أن تتحول المفاوضات مع إسرائيليين ل«فزاعة» ولأداة تحقق مكاسب إعلامية في الاقتتال الفلسطيني الفلسطيني، وفقا لفرضية خاطئة مفادها أن كل من يفاوض خائن وعميل، بل كافر أيضا. علي الرغم من كون المفاوضات منذ فجر التاريخ آلية أساسية بين الأعداء والخصوم، ومحاولة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب من خلال أوراق ضغط ومناورة وثقل ميداني، وإرادة لا تلين من خلال طاولة المفاوضات، والأفضل في أي مفاوضات أن تكون سرية، لكن بشرط ألا تكون علي طريقة «المطار السري»، حيث تستغل إسرائيل تلك المفاوضات لأغراض تتعلق بالاستهلاك المحلي من ناحية، وشغل الرأي العام العالمي من ناحية أخري عن عنصرية إسرائيل وجرائم الحرب التي تلاحق قادتها. فالملاحظ أن التسريبات المتعلقة بالمفاوضات السرية انطلقت من الجانب الآخر بشكل مواكب لخبر صدور أمر اعتقال لتسيبي ليفني وزير الخارجية الإسرائيلية السابقة وزعيمة المعارضة الحالية، وبشكل مواكب أيضا لصدور كتاب عنصري لحاخام إسرائيلي يترأس معهد ديني كبير ينص علي أن قتل كل من هو غير يهودي فريضة دينية(!) وهو أمر يضع العرب والمسلمين والمسيحيين معا لأول مرة في خندق واحد في مواجهة العنصرية الإسرائيلية. وقد أحسن أبو مازن صنعا عندما رفض التفاوض في هذا التوقيت إلا عبر وسيط ولفترة محددة، لأن خبرته الميدانية مع نتنياهو تثبت أن الأخير يتعامل مع المفاوضات من منطلق المباراة الصفرية التي لاينتج عنها إلا الاصطدام بسبب إصرار طرف علي أن يكون نصيب الطرف الآخر صفراً. لكن الرئيس الفلسطيني مطالب في الوقت ذاته بتوفير السبل اللازمة لدعم المفاوض الفلسطيني عند إجراء المفاوضات المستقبلية، وبخاصة أن إسرائيل تطبق بكل صلافة سياسة الاغتيالات علي كوادر فتح داخل الضفة الغربية دون رد فلسطيني.إعادة طرح ملف المفاوضات يتم وسط ترحيب أمريكي مرجعه مرور عام كامل علي تولي الرئيس أوباما سدة الحكم دون أن يحقق شيئا ولو النذر اليسير من التقدم في أي مسيرة سلمية -وهو الحائز علي جائزة نوبل للسلم- وعلي ذلك يجب الانتباه إلي أن المفاوضات تجري وفق مدارس عديدة فمنها مدرسة أو تكتيك يقوم علي رفع سقف المطالب في بداية المفاوضات تحسبا لضغوطات ومساومات تقود في النهاية لحل وسط مقبول، وهناك مدرسة ترفع لواء التشبث بنفس المواقف من البداية للنهاية، وهذا التكتيك يتطلب إرادة قوية ووسائل ضغط بلا حدود. والمراقب في الواقع لا يمكنه تصنيف المفاوض العربي بسهولة، ويبدو أننا نعمل علي «نحت» مدارس وتكتيك ننفرد به عن بقية البشر وضعت اللبنة الأولي لها في مقطع من أغنية شعبية شهيرة يقول: «خلي شوية عليا وشوية عليك». في جميع الأحوال المفاوضات ليست من عمل الشيطان، حتي ولو كانت سرية، فكبار القادة عبر التاريخ، بل الرسول الكريم نفسه (صلي الله عليه وسلم) أجروا مفاوضات مع الأعداء، فالمعيار هنا ألا تكون مفاوضات استسلام أو تفريط في تضحيات أجيال مضت وحقوق أجيال آتية. ويجب هنا الأخذ في الاعتبار أن المفاوضات التي تكون علنية للجميع وسرية فقط بالنسبة لمصر تؤدي لنتائج غير محمودة، مثلما حدث في أوسلو، وفي كامب ديفيد 2، وفي مفاوضات إدخال العجول لغزة منذ عام ونصف. ويجب علي كل الأطراف الفلسطينية بالتعاون مع محيطها العربي أن توجه جهودها ونيرانها نحو الاتجاه الصحيح وهو تكثيف العمل بكل قوة لكي يتوفر للمفاوض الفلسطيني المجابه لإسرائيل مناخا وأوراق ضغط تمكنه من التفاوض من مركز قوة، أو علي الأقل قدرة علي المناورة. فهذا هو الاتجاه الصحيح الذي يجب أن نستثمر فيه جهودنا، يضاف إليه أيضا محاولة استبيان المقاصد الحقيقية لمحصل الأتوبيس أو بائع الخيار الإستراتيجي في أسواقنا العربية، فلا يمكن للمفاوض العربي أن يكون له ثقل في طاولة المفاوضات أو حتي صوت مسموع، بينما إسرائيل تقتل كوادر «معسكر الاعتدال» الفلسطيني في الضفة الغربية، ونحن نعلن صباح مساء أن المفاوضات هي خيار استراتيجي وحيد بلا بديل ولا يوجد حتي تلويح بمقاومة (!) رحمه الله ياسر عرفات حين قال : لا تسقطوا غصن الزيتون من يدي واستجاب له المجتمع الدولي لأنه كان يحمل في يده الثانية البندقية.