تبدأ غدًا - الخميس - أعمال الدورة رقم 42 لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، الحدث الأهم - ثقافيًا - في مصر طوال العام، صحيح أن هناك مؤتمرات دولية يعقدها المجلس الأعلي للثقافة وهناك أنشطة متميزة تقوم بها دار الكتب المصرية، لكن المعرض يبقي الحدث الأكثر جذبًا للاهتمام العام ولقطاع واسع من الشباب وعموم المصريين، فالذين لا يهتمون بشراء الكتب يمكنهم أن يتابعوا الأنشطة الثقافية، بل إن بعض الأسر ينظرون إليه باعتباره «فسحة» يستمتعون فيها بحدث مهم. الحالة الشعبية وعدم اقتصار المعرض علي النخبة، هي موضع تميزه عند فريق وهي كذلك موضع مؤاخذة لدي بعض المهمومين بقضايا الكتاب والنشر، فعندهم أن معرض القاهرة ينبغي أن يكون مثل معرض فرانكفورت لتعاقدات الناشرين معًا وتعاقداتهم مع المؤلفين، وهذا يعني حرمان مئات الآلاف من عموم الناس أن يطلوا علي الكتاب مرة واحدة في العام أو أن يتابعوا نشاطًا أدبيًا وفكريًا حتي وإن جاء من غير قصد، ففي المجتمع المصري حيث لا تزال الأمية الأبجدية مرتفعة، والأمية الثقافية أكثر ارتفاعًا يصبح لمعرض الكتاب دور وأهمية إذ يتيح حالة تلفت نظر الجمهور الواسع وتستوقفه. ويبقي علي إدارة المعرض أن تحافظ علي قدر من التوازن بين النخبوية التي يريدها البعض منغلقة، وتصبح مع الوقت نظرة دونية إلي الآخرين أو عموم الناس. بين الشعبية التي قد تبتذل وينقلب زمامها فيصبح المعرض كما كان قبل سنوات وكرًا للباعة الجائلين وغيرهم، حالة التوزان تلك تحققت في الأعوام الثلاثة الأخيرة وأظنها سوف تتأكد وتترسخ هذا العام. معرض القاهرة الدولي للكتاب يصلح أن يكون مؤشرًا لحالة الثقافة المصرية ومن ثم حال المجتمع المصري كله، بدأ المعرض ومصر تخوض حرب الاستنزاف، في محاولة للخروج من هزيمة 1967، مرورًا بسنوات السبعينيات العاصفة، ثم التسعينيات بحوادث الإرهاب، وأظن أن الحالة المجتمعية انعكست علي المعرض حين أسست الراحلة العظيمة د. سهير القلماوي المعرض، كانت تريده معرضًا للكتاب بالمعني الحرفي، أي موقع يعرض فيه أحدث المطبوعات علي الجمهور، ثم تطور الأمر وأضيف إليه النشاط الثقافي بعقد بعض الندوات واللقاءات الفكرية مع عدد من الشخصيات وكبار الكتاب، وفي نهاية الثمانينيات فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فاحتفل المعرض بالفوز، بأن عقدت سلسلة من الندوات النقدية، شارك فيها كبار النقاد للحديث عن محفوظ والرواية العربية، تلك الفترة كانت مصر تخرج من عزلتها العربية التي فرضت عليها إثر توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل سنة 1979م وكان المعرض فرصة ثقافية لإعلان ذلك الخروج، والتقي ذلك مع ظرف خاص جدًا هو الحرب العراقية الإيرانية، ووجدت القومية العربية في المعرض ساحة للتعبير عن نفسها، بحضور ثقافي عربي موسع، في شهر يبدو أنه الأخير للقومية العربية، ثم جاءت سنوات الإرهاب فأضافت إلي المعرض واجبًا أو عبئًا يعلن فيه المثقفون موقفهم واضحًا من تلك القضية التي هزت المجتمع المصري حتي منتصف التسعينيات. حتي مشاركة تجار سوق الأزبكية بالمعرض كانت حالة مفروضة علي المعرض في البداية، حين أضير هؤلاء الباعة ونقلوا من موقعهم بسبب أعمال حفر مترو الأنفاق، وصار اليوم السور طقسًا خاصًا بالمعرض، واجتذب قطاعًا واسعًا من الجمهور ومن الباحثين والمتخصصين، حيث يجدون الكتب والمطبوعات النادرة التي يصعب الحصول عليها الآن. وإذا كانت القاهرة تشهد تأسيس العديد من المكتبات ودور النشر الخاصة والإقبال علي الكتاب يزداد وتنتشر فروع دور النشر الكبري، فلعل معرض الكتاب أحد أسباب تلك الحالة وذلك الازدهار الذي يشهده الكتاب. الدورة 42 تحمل دلالة خاصة، لعل أهمها أننا في مصر نجيد البدايات ونهتم بالمقدمات، ثم لا نكمل ولا يحدث تواصل، مشروعات كثيرة تبدأ ولا تكتمل، أحلام كبري نشرع في تنفيذها ثم يخبو الاهتمام. أما أن يتواصل مشروع لمدة 42 عامًا، فهذا يبعث علي السعادة وتحمل بعض الدورات الكثير من الإيجابيات وتفرز بعضها العديد من السلبيات، لكن أن يستمر المعرض 42 عامًا متجاوزاً عوامل الإحباط والترهل، فهو أمر مهم يحسب في المقام الأول للثقافة وللمثقفين المصريين. قبل هذا المعرض كان هناك معرض للكتاب تقيمه الغرفة التجارية بباب اللوق، ولم يكن معرضًا دوليًا ولا عربيًا، كان لدور النشر المصرية فقط، وقد تأسس في نهاية الأربعينيات ثم توقف سنة 1956 مع أجواء العدوان الثلاثي علي مصر، وظلت مصر بلا معرض للكتاب حتي نهاية الستينيات، وأقيم هذا المعرض حين كان د. ثروت عكاشة وزيرًا للثقافة وكانت د. سهير القلماوي تتولي هيئة الكتاب، وبدأ المعرض محدودًا ولم يلبث أن توسع وصار علي ما هو عليه اليوم. لقد استطاع المثقفون المصريون من خلال معرض القاهرة أن يؤكدوا حضورًا فاعلاً وقويًا، وجعلوا حرية الكاتب قيمة يجب أن يحذر من يحاول المساس بها، وجعلوا مصادرة الكتاب أمرًا معيبًا يجب أن يخجل من يقدم عليه، وصارت مصادرة كتاب داخل المعرض من المحرمات، ذات يوم كان هناك بين بعض المسئولين بإحدي هيئات الأزهر من يدخل الأجنحة ويأمر بمصادرة هذا الكتاب أو ذاك، اليوم، لم يعد هناك من يمكنه أن يصادر سوي هيئة الرقابة علي المطبوعات الأجنبية والموانئ والمطارات ومع ضغوط المثقفين والكتاب فإن سطوة هؤلاء الرقباء تتراجع، ونتمني أن يأتي يوم لا يكون لهم حق الاعتراض علي الكتب الواردة إلي المعرض من الخارج. في كل دورة من دورات المعرض تكون هناك الإيجابيات والسلبيات، والمعيار أن ترتفع الإيجابيات وتتراجع السلبيات إلي أدني مستوياتها، وهذا ما نتمني أن يكون في دورة هذا العام.