لم أستطع مغالبة الغضب والحنق ولم أستطع الاستسلام لقناعة أن السكوت أفضل من الكلام لأنه بلا مجهود والنتيجة واحدة. مضي أكثر من شهرين وعيناها تلاحقاني، ترمي بنظرة لا تطلب ولا تعفو، عيني طفلة تسأل «بأي ذنب وئدت؟» ربما لأنني أعلم أنها في عمر ابنتي. كنت أشعر بنظراتها وأنا أقف في الشارع مع الآلاف نحتفل بالفوز علي الجزائر في القاهرة، أستيقظ كثيرا قبل الفجر وأري نفس النظرات، لا أعرف اسم صاحبتها ولا شكلها لكن أعرف قصتها. طفلة في الصف الإعدادي في صعيد مصر تستدرجها صديقة المدرسة لزيارة زميلة مريضة، فتخدعها وتستدرجها لمنزل ابن عمها فيقيدها ويغتصبها عارية. لماذا تلاحقني بنظراتها وصفحات الحوادث لا تخلو شبه يوميًا من حادث مشابه؟ أكاد أشك أن روح الطفلة هي التي تلاحقني، فالحقيقة أن الطفلة المغتصبة أصبحت في حكم القتيلة والفضل لمجتمعنا الشريف الذي جعل البنت وشرفها ملكاً لرجل وحقاً أصيلاً له إما يصونه وإما ينتهكه، وحرم صاحبة الشرف من هذا الحق. وفي الصعيد ماذا يكون حال هذه الطفلة التي ذبحت علي أولي خطوات التفتح للحياة، ويعتبرها مجتمعها وأسرتها مريضة يتمنون لو ماتت وأراحت واستراحت. فهل تركها القاتل المغتصب؟ تخيلوا لا لم يفعل. بل سحب الذبيحة وراح يمثل بجثتها بدل المرة عشرات المرات، فابن عم الصديقة صور اغتصابه للطفلة ووزعها في كليب علي أجهزة المحمول تناقله شباب القرية والمدينة حتي وصل لأشقاء الطفلة وأولاد عمومتها فماذا حدث؟ أتساءل: ماذا حدث للطفلة وليس للمغتصب؟ هل يعرف أحدكم؟ هل تعرف السيدة سوزان مبارك- رئيس المجلس القومي للمرأة- وهل تعرف السيدة مشيرة خطاب- وزير الأسرة- وهل تعرف رئيس المجلس الأعلي للطفولة ؟ وهل حاولت واحدة منهن أو طلبت من أحد أن يعرف مصير الطفلة وأن يمد يد المساعدة النفسية والإنسانية لعلاج أزمتها إذا كانت علي قيد الحياة. كلنا نعرف أن أشقاء الطفلة هاجموا المغتصب وأهله في سوق القرية بأسلحة نارية وقتلوا ثلاثة من أهله وهرب المغتصب ولحق به أفراد أسرته، في حين سجن أشقاء الطفلة لقتلهم أبرياء ولم يحاكم المغتصب علي جريمته. لماذا التزم الجميع الصمت ولم يسأل أحد كيف هرب - وقبله وبعده يهرب المغتصبون بالعشرات من جريمة ثابتة في كليب موزع علي مئات الأجهزة؟ ولماذا لاتلاحقه أجهزة الأمن، علي العكس أطلقوا علي الكليب اسم «كليب الفتنة الطائفية» إرهاب كل من يقترب من الموضوع. هل نسيت أن أذكر أن الطفلة المغتصبة «مسلمة» وأن المغتصب الذي مثل بجثتها «مسيحي»؟ لا لم أنس لأن الديانة لا تمنح حماية لجريمة مركبة بشعة «مغتصب يمثل بجثة الطفلة التي اغتصبها ولم يقتلها». هل خرج أي شيخ أو قسيس في الصعيد أو القاهرة وتعامل مع الحادث علي أنه حادث فتنة طائفية؟ علي العكس تجاهل الجميع هذا الجانب لحساسيته، ولكني تجاهلته لأنه لا يمثل فارقاً في تقديري لبشاعة الجريمة، لأن أي دين سماوي ولا أعرف عن الأديان الأخري لا يقر تمثيل القاتل بجثة القتيل حتي ولو كان عدوًا، وما أعرفه أن السيد المسيح طلب من أتباعه إذا لطمهم أحد أن يديروا له الجانب الآخر، دعوة للتسامح المفرط والإسلام منع المحاربين من القتل دون قتال وحرم قتل الأسري والعزل والأطفال والشيوخ والنساء، فهل نتجه نحو تغيير أصيل في الشرائع السماوية والتشريعات المدنية، وهل نجعل من قانون العقوبات نسختين، نسخة تطبق علي أصحاب الديانة الواحدة ونسخة تعرف «بقانون عقوبات الفتنة الطائفية» يطبق حال ارتكاب جرائم بين طرفين مختلفي الديانة ويكون روح القانون إذا قتل مسلم مسيحياً فيجب أن يعفو القتيل وإلا اتهم بإثارة الفتنة الطائفية وإذا قتل المسيحي مسلماً ومثل بجثته فعلي الجثة أن تهتف للوحدة الوطنية. هناك أكثر من ملاحظة استوقفتني وحدي علي مايبدو، أولاها أن الصديقة المسيحية تدعي ماريان إسرائيل والاسم ليس من السهل في تقديري استساغته عند المصريين ومع ذلك نشأت صداقة قوية بين الطفلتين كانت أساساً للثقة التي قادت صاحبتها للخدعة ولم تمنع الأسر بناتها من الاختلاط والتقارب حسب الديانة رغم المصادمات التي تنفجر من وقت لآخر وفقا للأجندة. الثانية أن أشقاء الطفلة وأهلها قاموا بما يقوم به كل الصعايدة في الانتقام للشرف الذي داسه حيوان لا يصح أن نبحث له عن دين وكل الأديان تبرأ من جريمته، وكلنا نعرف أن الثأر في الصعيد لا تنفع معه قوانين ولا أديان ونسمع ونعجب لعائلات تفني في مسلسل ثأر يمتد عقوداً للخلاف علي ري أرض أو إصابة بقرة، ومع ذلك سارعنا باستنكار انتقام أهل الطفلة ليس لأنه تعدٍ علي سلطة القانون ولكن لأنها تهدد السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية، فالجريمة الأصلية حادث فردي لم يتوقف أمامه أحد والانتقام فتنة طائفية توقف الجميع أمامه. أنتم تطلبون اليوم من الرجل أن يتنازل عن أحد مظاهر رجولته في تطهير شرفه ضد من يعتدي علي زوجته أو ابنته أو شقيقته لأن المعتدي من أصحاب الدين الآخر ولا تدرون أنكم بذلك تكرسون الفرقة والحقد بين أبناء الوطن الواحد. المهم ألا تهتزوا من أجل المرأة أو الطفلة التي تغتصب كل يوم ولا تعترفوا بأنكم بقوانينكم وشرائعكم المشوهة تغتصبون حقوق المرأة كما منحها الله لها في أن تحيا كإنسان وليس رقيقاً يباع ويشتري ويصبح غنيمة لأمهر اللصوص، وتمنحونها ألقابًا ومقاعد في الوزارات لتسترون عورتكم. ملحوظة ثالثة أن الرجل إذا قتل زوجته الخائنة وعشيقها يقتل اثنين يحصل علي حكم مخفف وشهادة بطولة، فالمجتمع أعطي كل الرجال تفويضًا في تطبيق حد الزنا دون أربعة شهود، أما الزوجة إذا قتلت الزوج الخائن وعشيقته أو أيهما فتحصل علي أغلظ العقوبات لأنها لا شرف لها تدافع عنه رغم أن حد الزنا واحد علي الرجل والمرأة، ومع ذلك تحلمون أن يترك الرجل طواعية حقه في ممارسة الشرف ويتنازل عن صك الملكية حبا وكرامة من أجل السلام الاجتماعي والوحدة الوطنية ولن يفعل. الملحوظة الأخيرة أن خطاب الأزمة يتوجه للرجل، المغتصب والمنتقم، للوصول إلي تسوية واتفاق ويستمر في تجاهل المرأة والفتاة والطفلة في ظل غياب مهين لمجالس السيدات الفضليات القومية والعليا، فأصبح الرجل هو الذي يغتصب وينتقم ويتفاوض ويتراضي علي ثمن شرف المرأة، هل تكون سنوات سجن أم اتفاقيات صلح يرعاها الشيوخ والقساوسة. ولا أستبعد صياغة مادة في قانون عقوبات الفتنة الطائفية ترتكز علي مبدأ المساواة في اغتصاب البنات، فإذا اغتصب مسيحي فتاة مسلمة يقدم المسيحيون فتاة منهم ليغتصبها مسلم والعكس ويخرج جميع الرجال مسيحيون ومسلمون يهتفون للوحدة الوطنية، والشيوخ والقساوسة سيتبادلون القبلات أمام الكاميرات، والنساء اللاتي خرجن في ثورة 1919 يهتفن عاش الهلال مع الصليب سيدفعن ثمن السلام الاجتماعي من آدميتهن التي ستذبح اليوم قربانا للهلال والصليب.