ربما لطيبة مفرطة اعتبرتها طوال حياتي عيبا خلقيا لم أعرف في بداية الأزمة السر الخفي لإقالة إبراهيم عيسى من رئاسة تحرير "الدستور" ولذت بالصمت لأيام أستمع فيها لتحليلات الزملاء والمتضامنين الذين توافدوا على الجريدة فور إنتشار خبر الإقالة / الأزمة . وككائن يفقد أعصابه وبعض رشده من الإزدحام والجلبة والصخب والكاميرات كبر عجزي عن فهم حقيقة ما جرى وما يجري..وصرت أبتسم للمارين في ردهات الجريدة باعتبارهم ضيوفا يلتقطون لنا ومعنا صورا ثم ينقضي الأمر ونعود إلى ممارسة أعمالنا في الصباح التالي ومع كل ساعة تمر كان يزداد عدد الزوار/ المتضامنين .مللت من الهتافات والتصريحات التي كان يلقيها زملاء لم أسمع لهم صوتا طوال الفترة التي عملنا فيها معا بالجريدة فأنا أعرفهم جيدا إنهم دمثون وطيبون .وقلت لنفسي "هما مكبرين الموضوع ليه..هما أصحاب الجريدة الجدد مجانين عشان يقيلوا ابراهيم ..طيب لو أقالوه مين حيشتري نسخة واحدة بعد كدة..دة لو عملوا كدة يبقى كأنهم جايبين فلوسهم من مغارة على بابا ..ومش شقيانين بيها عشان كدة بيرموها عالأرض" ضحكت بهيستريا ..واعتبرت أني في ملهاة حقيقية . في صباح اليوم التالي دخلت "الدستور" فوجدت الناس كما هم والوجوم يعلو وجوههم والكاميرات تنتهز لحظة ضياع إستقرت على وجه زميل لتقتنصها أو لحظة إنفعال فتسجلها ربما تصلح أكثر لخبر سريع تبثه إحدى الوكالات . تركت المشهد كاملا ورحت لشادي عيسى وسألته "هو الموضوع جد والا إيه!" فنظر إلي بإندهاش وقال لي:إنت بتسأل بجد" تركته لإندهاشه ودخلت غرفة الديسك المركزي وجلست إلى أحد المكاتب فحضر بعد دقائق زميلنا طارق سعيد وسألني :"إيه الأخبار؟" قلت له :"أنا عارف ..بس شكلها بجد ..مش تهويش" فقال لي :"أيوة جد يا عم" لم أجد خلاصا من تأثير جملته الصادمة سوى استدعاء ذكريات رائعة عشتها هنا في هذا المكان ..مر بخاطري اليوم الذي استدعاني فيه إبراهيم عيسى من بيتي وقد كنت عائدا للتو من الجريدة فارتديت ملابسي على عجل وانا لا أعرف أسباب استدعائه وعندما وصلت إلى الجريدة لم أقابل زميل أو عامل إلا وسألني :"إنت فين ..أستاذ ابراهيم قالب الدنيا عليك" ولما سألت عنه أخبروني أنه مع ابراهيم منصور وخالد السرجاني في غرفة الإخراج وبعد "سلامو عليكو " و" عليكو السلام" قال لي ابراهيم عيسى :"بص ياسامح ..إحنا حنعمل صفحة أدب ..وإنت حتكون مسئول عنها ..وحتسلمني النهاردة صفحتين قبل ما أروح". كان التكليف تشجيع منه لي وأنا الذي لم يمر عام واحد على عملي بالجريدة حينها وإعتبرته أنا جميل لن أنساه أبدا فقد أتاح لي فرصة للتحقق وإثبات الذات ربما لن يمنحني أحد أخر هذه الفرصة لأنه لن يكون مثل ابراهيم عيسى الذي يعرف كيف يفتش عن الموهوبين ويتح لهم الفرصة والمساحة الكافية وينسحب ليترك الباقي لشطارتهم .وبما ان الصفحة كانت يومية وعدد الزملاء الذين يشاركون بها قليل كنا نعجز في بعض الأحيان عن إيجاد أفكار جديدة فكان يفاجئنا بدخوله غرفتنا سائلا "انتم لسه ما سلمتوش الصفحة؟" ويخرج سريعا ثم يرن هاتفي فأجده ينقذنا بفكرة جديدة وبعد ان ينفذها أحد الزملاء أجري مسرعا لأسلم الصفحة لقسم الإخراج وعندما أعود إلى زملائي يقولون في صوت واحد :"أنقذنا ابراهيم عيسى ". ولا أنسى أبدا حينما وجدنا لا ننشر بالصفحة إلا التحقيقات والحوارات والتقارير والأخبار فاستدعاني وقال لي غاضبا "إنتو ليه ما بتكتبوش رأيكم في الكتب واللي بيحصل في الوسط الثقافي" كان يريد أن يكتب المحررون آراءهم بحرية حتى إن لم يتفق البعض معها كان يريد أن يشعر من يعمل معه بالحرية في الكتابة حتى وإن كانت كتابته نصف نصف المهم أن يتعلم كيف يكتب بحرية وثقة .مرت علي مشاهد كثيرة لهذا الرجل الذي لم يوبخ يوما أحد من الزملاء على رأي كتبه.لم يكن ابراهيم عيسى رئيس تحرير بالمعنى السائد في أي صحيفة حزبية أو قومية أو "مستكلة" بل كان في بعض الأحيان محررا وأحيان أخرى "ديسك" وتراه في معظم الأوقات مصححا ومخرجا ومنفذا فهو معجون بالمهنة وكأنها خلقت له أو خلق لها .وأستطيع بعد 4 سنوات من العمل معه أن أقول إذا كان لدينا يوسف إدريس في القصة القصيرة ونجيب محفوظ في الرواية وزويل في العلم فلدينا أيضا بدون أدنى مبالغة او شك ابراهيم عيسى في الصحافة. فكيف يقال رجل بحجم إبراهيم عيسى من صحيفة بشهرة "الدستور" إلا بغرض ذبحها وترك جثتها ليسر منظرها الفاسدين والمرتشين والباحثين عن أدوار والذين إختلفوا مع عيسى وإختلف معهم والذين غاروا منه وحقدوا عليه والذين طلبوا الرحمة لأنفسهم بقتلها غدرا لتتحلق حول جثتها الذئاب وأثرياء الحروب.