هل تعرف الحجاج بن يوسف الثقفي؟ أظنك تعرف أنه أخطر وزير داخلية في الإسلام، وهو مُثبِّت عرش الدولة الأموية وصانع أسس الدولة البوليسية في التاريخ الإسلامي! ماشي، لكن يهمني أن تعرف كذلك أنه كان ابنا لعالم لغة ومن معلمي القرآن الكريم ومحفظيه، وصار الحجاج طالب علم يتردد علي حلقات الصحابة والتابعين، وكان تلميذا مبهرا ثم مدرسا للغة العربية، أو بالدقة الواجبة، عالما لغويا وأستاذا وخبيرا باللغة العربية ودروبها وضروبها كذلك بل حمل لقب أفصح العرب، بل الثابت أن الحجاج بعلمه ورغبته الحارقة في خدمة دين الإسلام ساهم بدور فاعل وفعال في كتابة وتدوين وخط وتنقيط (وضع نقط) المصحف الشريف وهو عمل جلل وجليل، بل هو العمل الذي يتسع فضله حتي يوم الدين، يوم نلقي الله جميعا - ومعنا وفينا الحجاج - وأي قارئ لكتب تفسير القرآن الكريم له أن يمعن في قراءة المقدمات التمهيدية لهذه الكتب التي عادة ما تقدم تعريفا ملخصا وخالصا لتفسير القرآن الكريم من حيث نزوله علي النبي المصطفي - صلي الله عليه وآله وسلم - وجمعه وحفظه وقراءاته وغير ذلك من علوم المصحف الشريف، وسوف نجد اسم الحجاج بن يوسف الثقفي لامعًا وحاضرًا بقوة في هذا الجهد الديني والعلمي الرائع، اقرأ معي في مقدمة تفسير القرآن «الجامع لأحكام القرآن» للإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي لتجد مثلاً: «وأما شكل المصحف ونقطه فروي أن عبد الملك بن مروان أمر به وعمله، فتجرد لذلك الحجاج (تصدي له واشتغل به ) وجدَّ فيه (اجتهد فيه) وزاد تحزيبه (اهتمامه وانشغاله وولاؤه لهذا الموضوع) وأمر وهو والي العراق الحسن ويحيي بن يعمر بذلك، وألف (نشر) إثر ذلك بواسط (مدينة عراقية) كتابا في القراءات جمع فيه ما روي من اختلاف الناس علي ذلك زمانا طويلا....» ثم في كتاب «المصاحف» لابن الأشعث السجستاني تجد اهتمام الحجاج الواسع بعلوم المصحف وتفاصيلها في الكتابة والقراءة والتلاوة والإعراب والحروف، بل تجد اسم الحجاج أكثر من مرة في فهرس الكتاب نفسه عنوانا لباب أو لفصل. بل إن الحجاج جمع - حينًا - القراء والحفاظ والكتاب للوقوف علي عدد حروف القرآن (340740 حرفًا) وتحديد عدد أجزاء القرآن وأرباعها وأنصافها، واستغرق العمل أربعة أشهر تحت مشاركة واهتمام ورعاية ودعم وطبقًا لتوجيهات الحجاج بن يوسف الثقفي. وسبحان الله هذا الرجل العالم المثقف الحافظ للقرآن الخبير بعلوم القرآن والمؤسس لشكل المصحف القرآني الذي نقرأه بين أيدينا.. هو الرجل نفسه الذي سفك الدماء وهدم الكعبة وقمع باسم سلطانه الرعية والمواطنين، هو نفسه المثقف العالم بالقرآن الذي باع علمه وذكاءه للسلطة وللغني والنفوذ ليصبح أشر صور المثقف وعالم الدين حين يستبدل الذي هو أدني (النفوذ والفلوس) بالذي هو خير (العلم والضمير)، ويشتري الضلالة بالهدي والدنيا بالآخرة، وهو الطاغية الذي يرفع شعاره «إني أنذر ثم لا أنظر - ما باشفش قدامي ساعتها -، وأحذر ثم لا أعذر، - مابرحمش بعدها ياحلو - وأتوعد ثم لا أعفو - أفرمه وأقطعه من لغلوغه»!