راح الصحفي يسرد علي رئيس تحرير مجلته قائمة الموضوعات التي يجب الاهتمام بها، فسأله رئيس التحرير: وما قيمة هذه الموضوعات؟ قال الصحفي: لأن القراء يهتمون بمتابعتها، ومهمتنا أن نرضيهم بتغطية الأحداث المهمة بالنسبة لهم. وهنا وجد الصحفي نفسه (وجهاً لظهر) مع رئيس التحرير، الذي أشاح بوجهه عنه، مردداً في ثقة العارفين ويقين الواصلين: يا بني نحن لا يهمنا إلا رضا قارئ وحيد، هو الرئيس مبارك! وتقول بقية «السيرة الذاتية» لرئيس التحرير إنه وبفضل هذه الاستراتيجية ترقي ليصبح رئيساً لتحرير صحيفة أكثر أهمية وأوسع انتشارا! هكذا تسير الأمور، وهذا هو القارئ الذي تلتمس رضاءه صحف لا يمكن أن نعتبرها صحفنا، لأنها لا تبالي بنا من الأساس. ثم من ينسي الواقعة الشهيرة (والسوداء والمهببة) التي حدثت يوم اغتيال الرئيس السادات في 6 من أكتوبر 1981. يومها كان الناس في العالم كله يتابعون عبر الإذاعات وشاشات التليفزيون خبر مقتل الرئيس، بعد إصابته بالرصاص أثناء حضوره العرض العسكري، بينما صحيفة تؤكد في خبرها الرئيسي علي الصفحة الأولي أن (المرحوم) أثني علي المستوي الذي شهد به العرض العسكري، ثم صافح رجالات الدولة وضيوفها، وعقب انتهاء العرض، توجه إلي قريته «ميت أبو الكوم» بمحافظة المنوفية، ووضع إكليلاً من الزهور علي قبر شقيقه الشهيد عاطف السادات.. و.. و... كان الخبر الرئيسي للصحيفة فضيحة مهنية وسياسية، وكذبة تتضاءل إلي جوارها أكذوبة «المهراجا» إذ اعتدل علي فيله وراح يفكر ويفكر، في مسرحية «أصل وصورة» الكوميدية، التي تحولت منذ بداية «عصر مبارك» من عرض مسرحي إلي واقع يومي، ومن كوميديا إلي مأساة وكارثة! وبدلا من التحقيق مع المسئولين عن الفضيحة سالفة الذكر، ترقوا جميعاً، وتولي كبيرهم أرفع المناصب المهنية والإدارية، وكأنهم لم يتعاملوا بمنتهي الاستهتار و«المسخرة» مع أخطر جريمة اغتيال سياسي في العصر الحديث، والوحيدة التي طالت حاكم مصر. لم يكن ما جري خطأ، ولا أكذوبة ارتكبها صغار، لكنه استراتيجية كاملة يباركها الكبار، هدفها رضا القارئ الوحيد، ومنطلقها أن المهمة الأساسية للصحافة، ومن ثم الإعلام كله، هي تسويق النظام والترويج له، وفي هذا الصدد لا قيمة للصدق من حيث هو صدق ولا للحقيقة لمجرد أنها حقيقة كما أنه لا عيب في الكذب، حتي ولو كان «الكذاب ح يروح النار»! استراتيجية تتحدد قيمة العمل الإعلامي فيها حسب قدرته علي إحداث ضجة، ومهمته الأولي الشوشرة علي أصوات العقل والضمير. وهي استراتيجية راجت واستقرت وثبتت أركانها بمشاركة النظام كله: حكومة، ومعارضة، وشعباً. الحكومة باختياراتها، والمعارضة، التي لا يختلف معظم المنسوبين إليها عن نظرائهم في الحكومة إلا في كونهم «أقل مهارة»، والتي تصور شرفاؤها أن بوسعهم مجاراة الحكومة في «علو الصوت» وتركتهم الحكومة يتصورون أن بوسعهم منافستها في «التشنيع»، ليعبدوا لها طريقه، ويسير فيه إعلامها بعد هذا بلا عوائق! والشعب يشارك بتجاهله في المؤامرة علي عقله، ويواصل «تعاطي» الإعلام المغشوش، مع الغذاء المغشوش والدواء المغشوش. و«اللباس» المغشوش أيضاً، مع فارق أساسي، هو أن الأخير يكشف ما يجب ستره، بينما الإعلام المغشوش يستر عن الشعب كل شيء، ثم يفضح البلد كلها علي رؤوس الأشهاد! الأكثر جهلاً.. يتقدم! والأقدر علي اختلاق المبررات و«تلبيس التهم» هو «رجل الساعة»! لهذا فإن الصورة التي نشرتها «الأهرام» للرؤساء المشاركين في قمة واشنطن، بعد تغيير تفاصيلها، بهدف تعديل موقع الرئيس مبارك «القارئ الوحيد» من خلفية الصورة إلي مقدمتها، ليست مجرد صورة ملفقة، لكنها تعبير واضح عن نظام ملفق، وإعلام يتصور لطول ما مارس التعمية أن الناس كلهم مثله غارقون في الضلال، أو قل إنه لا يراهم، ولا يعبأ بهم، ولا يهمه إلا «القارئ الوحيد»! إعلام لا يبالي بالمتلقي، حتي ولو كان هذا المتلقي «خواجة» وكانت الكذبة مفضوحة ومكشوفة بامتداد المسافة بين المشرقين، والحدث الذي تم تلفيقه حضره الرئيس الأمريكي شخصياً، فهل رأيتم شيئاً كهذا إلا في بلادنا المتخلفة؟ أما حديث الأستاذ «أسامة سرايا» عن «الصورة التعبيرية» فذكرني مباشرة بعبارة «دي صورة سورياليزم.. التقطتها وأنا منبطح أرضاً.. وكادت تدوسني الأقدام» التي قالها «عبد السلام النابلسي» ل «محمود المليجي» في فيلم «يوم من عمري». مع فارق أساسي هو أن «النابلسي» كان خفيف الدم، و«المليجي» كان أستاذاً درس طبيعة رئيس التحرير، قبل أن يؤدي دوره، علي نحو أفضل بكثير من بعض من يفترض فيهم أنهم رؤساء تحرير حقيقيون! الأستاذ «أسامة سرايا» حاول تبرير التلاعب في تفاصيل الصورة قائلا إن «الأهرام لا يمكنها وضع مصر خلف (إسرائيل)»، ونقول له: إن الصحف لا تضع ولا ترفع بل «تنشر» ما لديها كما هو، طبقاً لما يسمي من المنظور المهني «الدقة»، ومن المنظور الأخلاقي «الأمانة». ثم إن الصورة خبرية، والخبر كما ينبغي أن تعلم لا يتسع لوجهات النظر، فهو إما صادق وإما كاذب. وبهذا المعيار فإن الصورة التي نشرتها «الأهرام» محض كذبة، لأن المشهد الذي تصوره لا أصل له في الواقع. وحتي يفهم من لم يفهم، نقول: لنفترض أن الرئيس ولسبب ما تأخر في دخول القاعة، حتي انتهت مراسم افتتاح مؤتمر ما، هل يجوز لأننا نحب الرئيس ونحترمه ونحرص علي مكانته أن نكتب «تصدر الرئيس حضور مراسم الافتتاح»؟ وهل يجوز أن نتلاعب في صورة الحضور و«نحشر» صورة الرئيس بينهم؟ ثم إن عبارة «الأهرام لا يمكنها وضع مصر خلف (إسرائيل)»، تتناقض مع عبارة أخري قالها «أسامة سرايا» نفسه حين أشار إلي أن الأهرام نشرت الصورة الأصلية التي تضع مصر خلف الكيان الصهيوني بين صور قمة واشنطن التي قامت الأهرام «بنشرها كاملة في العدد التالي لعقد القمة» كما قال الأستاذ «أسامة سرايا»، ولو كانت الصورة تعكس إساءة لمكانة مصر لما جاز أن تنشر أبدا، لكنها نشرت مرة، فلماذا التلفيق في المرة الثانية؟ ثم نفهم من قول «أسامة سرايا» أنه يستنكف «وضع مصر خلف (إسرائيل)» وهو استنكاف محمود، لكن ما العمل إذا كان الرئيس مبارك هو الذي سار متأخرا عن رئيس وزراء العدو الصهيوني؟ ولماذا لم تعبر «الأهرام» عن هذا الاستنكاف في مقالاتها وتحليلاتها، حيث المجال أرحب، والتعبير أوضح من الصورة التي تلاعبوا بتفاصيلها؟ الأستاذ «أسامة سرايا» قال أيضاً إن «الأهرام» لا تعيد نشر منتجاتها الصحفية، وكأنه يبرر التلاعب في تفاصيل الصورة بأنه تغيير هدفه عدم التكرار، لكنه تبرير مردود من وجهين: الأول: أن الأهرام وبكل تأكيد أعادت نشر الكثير من منتجاتها الصحفية مراراً وتكراراً، ولا عيب في هذا، مادام النشر في كل مرة يحافظ علي الدقة، ويواكب الحدث. الثاني: أن الصورة ليست من منتجات الأهرام علي أية حال، بل من منتجات الوكالة الصحفية التي بثتها. أما إشارة الأستاذ «أسامة سرايا» إلي وجود «طابور خامس» يتربص بمصر وبمكانتها وبالأهرام، فهي إشارة صحيحة بكل تأكيد، مع تعديل بسيط، هو أن أعضاء هذا الطابور الخامس هم هؤلاء الذين تسببوا في أن نصبح أضحوكة للعالم كله، ومادة للتندر علي صفحات كبريات الصحف العالمية، وأهم شاشات المحطات الفضائية.