فاجأتني في باريس نجوم الأخبار الواردة من مصر: الأستاذ أسامة سرايا، الدكتور سليم العوا، الأنبا بيشوي. يجمعهم شيء واحد فقط، مع الاحترام للجميع. يجمعهم : أن كلاً منهم ترك موقعه وتحدث من موقع آخر، ومن خارج مجاله. وحده الأستاذ سرايا أضحكني. كلما حاول الخروج من الفخ، وقع في مصيدة أكبر. مهارته في الدفاع عن النظام محلية الصنع. سلاح فاسد رخيص الثمن، أحدث فضيحة عالمية للنظام الذي وضعه علي رأس الكتيبة الأولي في جيش الدفاع الصحفي. النظام يختار مقاتلين علي مقاسه، وليس علي مقاس مواقعهم..لايهم النظام الكفاءة ولا المهارة ولا حتي القدرة علي أداء المهام بشكل جيد وذكي. عبد الناصر اختار هيكل.. والسادات اختار إحسان عبد القدوس أولا ثم موسي صبري. ومبارك اختار إبراهيم نافع وإبراهيم سعدة وسمير رجب ...وفي النهاية لم يجد سوي اسامة سرايا وصحبته من جيل الحراس الجدد. والفخ الذي وقع فيه الأستاذ سرايا هفوة صغيرة، لم يدرك معها خطورة التقنية الحديثة، ولا تأثيرها. إنه رجل محلي، يسير علي كتالوج قديم، وإمكانياته لا تسعفه علي اكتشاف الفضيحة. الفضيحة لم تكن في محاولة إظهار الرئيس مبارك علي أنه قائد المفاوضات، وأنه يتقدم أوباما والجميع علي السجادة الحمراء، ولكنها في تبرير مافعل علي أنها صورة تعبيرية. التبرير مضحك جدًا. أولا، من خلال هذه الجمل الإنشائية الركيكة التي إذا عزلت من سياقها فإنها بالتأكيد ستقرأ في مجال السخرية من كتابة لا تقول شيئًا رغم استخدامها كلمات فخمة. يقول الأستاذ سرايا: «يبدو أن المناخ السياسي السائد حولنا في مصر يتجه نحو الإثارة ومشتملاتها، ومحاولة اللعب علي كل الأوتار مما أدي إلي تغييب الحقائق نفسها، قبل أن يصاحبها تغييب القيم والضرب بعرض الحائط أخلاقيات تعارفنا علي تسميتها بالقيم المهنية وحدود اللياقة والزمالة ...». ماذا تعني كلمة مثل «الإثارة ومشتملاتها»؟ أو ماذا يعني بقية الكلام المنشور علي أنه رد من رئيس تحرير «الأهرام» علي فضيحة نشرتها صحف ومواقع إعلامية كبيرة في العالم...؟ كيف يكتب رئيس تحرير كل هذه الكلمات الفخمة لكي لا تؤدي إلي شيء في النهاية؟ حتي الإنشاء.. والكلام الجاهز كان له أسطوات في الصنعة، كما أن الصحافة صناعة وفن. الأستاذ سرايا فضح غياب الكفاءة في الجيوش المحيطة بنظام الرئيس، وهو غياب أكبر من الاختلاف مع النظام، أو رغبة في إزاحة الحزب الوطني من السلطة بعد 30 سنة متواصلة. الأستاذ سرايا من منتجات الاستبداد العقيم. الاستبداد أحيانًا ينتج كما يحدث في الصين الآن، أو في ألمانيا الهتلرية أو الاتحاد السوفيتي أيام الشيوعية، أو حتي في مصر أيام عبد الناصر. هناك نوع ملهم من الاستبداد، ينتج مبدعين وفنانين وصناعات وصحافة وغيرها من خطوط إنتاج تعمل وفق نظام وكفاءة تغيب عن نظام مبارك إلي حد مذهل، مكشوف، لكن الأستاذ سرايا نقل الكشف إلي العالم كله. أتخيل الآن الموقع المناسب للأستاذ سرايا. وهذه الحيرة هي سبب الضحك. كل خيالاتي تسير باتجاهات كوميدية عن سنوات عاشت فيها مصر تحت الرادار، قلت هذا الوصف من قبل، وأراه الآن متحققًا في الأستاذ سرايا. هو نتاج 30 سنة من الطيران تحت الرادار. حيث لا صدام مع أحد..كما كان في عصر السادات أو حتي عبدالناصر. العقل السياسي انسحب تدريجيًا لصالح عقل أمني. اختفت فكرة معبود الجماهير ومثير أحلامها. وتسربت درجة درجة..فكرة قائد القافلة الناجح في تفادي الصدمات.تسميها البروباجندا المحيطة: حكمة. وعقلانية. لكنها أساسا علامة علي اختفاء الأفكار اللامعة منذ 30 سنة.. بلا خيال ولا ملهمين ولا عقل ينقل الدولة إلي محطة علي طريقة بسمارك في ألمانيا بعد الحرب العالمية. الأستاذ سرايا ابن هذا كله. ابن مخلص، فضح عصره كله بهذا الخطأ الصغير. أما الدكتور العوا والأنبا بيشوي.. فهما حكاية أخري تتعلق بالاستبداد، لكنه الاستبداد موحد الأديان.