الذين يحلمون بوطن متقدم ودولة حديثة في مصرنا لابد أنهم يدركون أن هذا لا يتحقق إلا بوجود دولة القانون التي لا يعلوها أي قانون آخر. ودولة القانون التي نعنيها ليست دولة البطش والاستبداد وإنما تلك التي يتمكن بها المجتمع من امتلاك أدوات المساءلة والمحاسبة العادلة لكل فرد في المجتمع مهما كان منصبه فيها ومهما كان موقعه في أي من المؤسسات الاجتماعية والدينية القائمة في المجتمع. وفي المجتمعات الناضجة تتراوح المحاسبة بين المساءلة القانونية والمساءلة الأدبية, ففي الأولي يحاكم المجرم للتأكد من جرمه ومن ثم يأخذ جزاءه المناسب, وفي الثانية يقوم المجتمع بمحاسبة المخطئ في حقه, وذلك في ما يخص الآراء المتنافرة وعدم التزام حدود اللياقة أو السعي نحو تأجيج المشاعر السلبية وغير ذلك من الأخطاء الشائعة والمتكررة في المجال العام. وللمجتمع في هذه الحالة الحق في المطالبة بالاعتذار أو المطالبة باستقالة المسئ وعدم مشاركته في المجال العام. طالت المقدمة لكنني أراها لازمة, فهي السياق الذي أسوق فيه رأيا فيما جري من حرائق طائفية بين الكبار في الأيام الماضية. فالحديث الصحفي الذي أدلي به نيافة الأنبا بيشوي سكرتير المجمع المقدس, ومع كل التقدير لشخصه وللموقع الكهنوتي الذي يمثله, حوي عدة أخطاء لا مجال لإنكارها. و أخطر ما جاء في حديث الأنبا بيشوي هو هذا التقسيم بين ال'نحن' وال'هم', هذا التقسيم القائم علي أرضية الدين في المجال العام والذي يكرس للطائفية. وهذا التقسيم الطائفي أدي به إلي الخطأ الأكبر في ظني وهو اعتبار المسلمين' ضيوفا' علي بلدنا جميعا مصر. وهو خطأ جارح وغير مقبول. وهو خطأ لأن أي دارس لتاريخ مصر أو باحث في الأنثروبولجي يعرف أن معظم مسلمي مصر هم من الأقباط المصريين الذين تحولوا إلي الإسلام في مراحل تاريخية مختلفة, فنحن جميعا أقباط ومسلمين من أهل البلاد الأصليين, ولا يمكن لأي أحد أن يدعي ذلك للأقباط فقط, وهو جارح لأنه يدعي ضمنيا علي المسلمين أنهم ليسوا اخوة وإنما معتدون, ومن ثم هو خطأ شديد الوقع علي الجميع. لقد خرج الأنبا بيشوي إلي المجال العام بحديث جانبه الصواب في العديد مما طرحه, وأتوقع ويتوقع منه الكثيرون أن يبدي التوضيح المناسب لما أعلنه من أراء. وليس مقبولا أن يخرج علينا البعض ليقول أن لا أحد يحق له مراجعة حديث الأسقف نظرا لمكانته الدينية, فربما كان ذلك مقبولا في مجاله الديني الخاص, لكنه عندما يخرج إلي المجال العام فالمساءلة تكون واجبة علي الجميع والتوضيح والتراجع عن الآراء الخاطئة حق المجتمع كله. ولإن أزعجتني أراء الأنبا بيشوي فإن حوار الدكتور سليم العوا صدمني, والصدمة سببها معرفتي الوثيقة به كنموذج للرجل الملتزم وطنيا ودينيا, وكنموذج للفقيه القانوني والعالم والحجة في منطقه فكرا وحديثا. لذلك كان غريبا علي أذني كل ما سمعته منه في الحديث التليفزيوني. فالحديث بدأ بأن قدم المذيع قائمة من الاتهامات التحريضية ضد الأقباط ككل, يعلم الجميع أن أنها جزء من الصورة النمطية السائدة بين بعض التيارات الإسلامية عن الأقباط, فعلي سبيل المثال يعلم الدكتور العوا أكثر من غيره أن هناك بعض الأقباط يتعاونون سلبا أوإيجابا مع المؤسسات الحقوقية الدولية, لكنه يعلم أيضا أن ذلك لا ينسحب اتهاما عاما لكل الأقباط, غير أنه لم يراجع مقدم البرنامج فيما يقوله وترك المشاهد يعتقد في أنه يصدق علي ذلك. والأخطر من هذا أن يؤكد الدكتور العوا, ولو ضمنا, علي مسألة تخزين الأسلحة في الديارات والكنائس ويضيف إلي ذلك ما يتردد من شائعات حول واقعة جلب' المواد المتفجرة' المتهم فيها أحد الأقباط باعتبارها دليلا علي ذلك رغم عدم وجود تصريح رسمي من أي مصدر أمني يؤكد ذلك. ورغم وجود معلومات أخري تفيد بأن هذه المواد هي من قبيل الألعاب النارية. وصدمتي في الدكتور العوا نابعة ليست فقط من مكانته الفكرية والعلمية وإنما من معرفتي بما قام به هو وأنجزه من خطوات إيجابية في سبيل وحدة هذه الأمة, وصدمتي تأتي لمعرفتي الوثيقة بأن الدكتور العوا يعرف الكثير عن المؤسسة الكنسية ودخائلها وامكانائها المادية والمعنوية, بل أزعم أنه يعرف عنها أكثر مما يعرفه الكثيرون من الأقباط فكيف سمح لغضبه أن يجعله يتغاضي عن تحريض يصل إلي حد التخوين علي أشقاء له في الوطن؟. إن ما ردده الأنبا بيشوي في حديثه الصحفي من أخطاء جارحة وما أعلنه الدكتور العوا من ادعاءات خطيرة يجبرنا جميعا أن ندعوهما لكلمة سواء, فبعد هذه الزوبعة الطائفية التي أتتنا ممن نجلهم إكبارا وإعزازا نطالبهما أن يقبلا دعوة العالم الجليل الدكتور أحمد كمال أبو المجد للعتاب والمصالحة وأدا للفتنة ودرءا للمخاطر الي يتعرض لها الوطن الذي نحبه جميعا.