إذا أردت أن تعرف درجة تحضر أي مجتمع عليك أن تحدد موقعه أولاً علي خريطة الإنسانية، والإنسانية التي أقصدها هنا لا تنتمي إلي نظرية «الدموع القريبة»، بمعني أن الشخص الذي ينفعل عاطفياً بسرعة هو الشخص الأكثر إنسانية أو أن الشخص الذي يبكي أمام مسلسلات رمضان هو «الشخص الذي تنطبق عليه مواصفات الإنسانية» بأي حال من الأحوال!! الإنسانية - من وجهة نظري علي الأقل والتي هي غير مفروضة عليك علي الإطلاق - أن نقدر قيمتنا كبني آدمين ونقدر قيمة الآخرين، وأن نعرف ونعي أولاً يعني إيه بني آدم !!! ولأنني لا أريد أن أواصل هذا المقال بكلام مرسل تشم من خلاله رائحة التشاؤم أو حتي التنظير، لأنه لن يجدي علي الإطلاق، ولكن الهدف الحقيقي مما سأرصده لكم في السطور القادمة هو أن نري أنفسنا جيداً - هذا إن كنا نري أساساً - أو إن كانت لدينا بصيرة. أعتقد أن أقسي الشعوب وأكثرها ظلماً هي الشعوب التي تغيب إدارتها عن تطبيق الإنسانية أو حتي مراعاتها وتزداد تلك المجتمعات قسوة والويل كل الويل عندما تعيش في مجتمع تدار فيه اللا إنسانية بدرجة عالية لا نحسد عليها من «اللامنطق»!!. اللامنطق الذي يحكموننا به لسنوات طويلة أكل عقولهم وعقولنا أيضاً وخربها فأصبحوا هم عاجزين عن إعمال الفكر أو حتي الحس، وأصبحنا نحن راضين أو متكيفين ( احسبها كما شئت )... لأننا علي الأقل متوقعون الأسوأ فيأتينا المزيد منه. اللإنسانية في بلدنا هي التي تقصم ظهر المواطن، تكسره، تهزه، تشككه في قدراته، تفطس عزيمته، تقتل روحه وطموحه ورغبته في العطاء لهذا المجتمع . كتبت مراراً وتكراراً عن مشكلات ذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، وهم فئة «بالملايين»، أي أنهم مجتمع آخر داخل مجتمعنا، لا يعدوا هامشيين أو قلة هم غيرمتنكرين أو مختفين عن أعيننا - لكي نميز أن لديهم الكثير من الحقوق التي يستحقونها ،لكننا لا نري... لقد قررنا أن نعمي أبصارنا وبصائرنا عن احتياحات وحقوق ذوي الاحتياجات الخاصة . كنت أتحدث إلي د/ علاء الدين محمد عبد المتعال وهو مدرس فلسفة متفرغ بكلية الآداب جامعة حلوان، وهو كفيف أيضاً، ولمن لا يعرف جامعة حلوان، فهي شاسعة الاتساع، مبانيها ومدرجاتها علي مساحات متباعدة للغاية تصل إلي عدة كيلومترات، كأنها صحراء وتناثرت فيها المباني، وعن كيفية وصول د. علاء إلي المدرج أو المكان الذي يلقي فيه المحاضرة سألته ففاجأني بهذه المهزلة اللإنسانية اللامنطقية قائلاً: «للأسف منعوا دخول التاكسيات إلي الجامعة منذ عامين، وعندما تقدمت بطلب للاستثناء نظراً لظروفي، فجاءني الرد من أمين عام الجامعة بمنتهي التعاون والود بأنه سيتفضل مشكوراً بتخصيص سيارة لي تقلني من باب الجامعة الرئيسي وحتي مكان المدرج، ولكن المشكلة أن هذا الإجراء إن نفذه الأمين يوماً، لن تصبح عادة ولن يصبح هذا التخصيص قائماً ومستمراً. فما الحل؟ فجاءتني الإجابة أيضاً من المسئولين في الجامعة بأن هناك «ميني باص الجامعة» يمكن استخدامه، لكن المشكلة الأساسية أن هناك ميني باص وحيد هو الذي يخدم كل هذه الأعداد وغير موجود إلا في أوقات محددة، فماذا أفعل عندما آتي إلي الجامعة لمحاضرة في منتصف اليوم؟!! يقول د. علاء المشكلة ليست شخصية علي الإطلاق لأنني كشخص كفيف يمكن أن أقطع المشوار سيراً علي الأقدام في عز الظهر، المهم أن أجد من يصحبني ونسير معاً، لكن هناك طلاب من ذوي الإعاقة الحركية مثلاً ..ماذا يفعلون إذن ؟ إنني أتحدث عن سبب منطقي لمنع التاكسيات التي يتم تأمين دخولها بأخذ هوية السائق لحين عودته من توصيل الشخص داخل الجامعة ثم الخروج مرة أخري، فما المشكلة أن يسهلوا علي البني آدمين سواء معاقين أو غير معاقين... أليس هذا هو المنطق والإنسانية؟!! القصة الثانية التي أكدت لي أننا نعيش في مجتمع فقد المنطق هو ما بدأ يحكيه لي مصطفي مهدي ومصطفي شاب مصري يفرح القلب التعيس وما أكثر التعساء الذين يعيشون في هذا الوطن، ولكن هذا الشاب نفسه يحارب ويجاهد من أجل الحفاظ علي تفاؤله وطاقته غير المحدودة وقدراته التي تصنف علي أنها من الهدايا الربانية العظيمة التي يختص الله بها إنسان، ثم يأتي عبد من عباد الله " المفسدين والجاهلين وغير المؤمنين " ليشككوا في قدرة الله عز وجل... آه والله.. ما أكثرهم في مجتمعنا، ناس تفقدك الإيمان بقدراتك وتفقدك التحدي وتواجه إيجابياتك بسلبياتها المريضة، وهذا هو ما يحدث مع مصطفي الشاب الكفيف الذي قررت والدته العظيمة أن يلتحق بمدارس عادية ( غير متخصصة للمكفوفين )، تعاملت معه بنصيحة أسداها لها أحد الأقارب الذي كان يعيش في إنجلترا حين قال للأم ذات يوم: ( لو عاوزة مصطفي يكون راجل... جمدي قلبك ولو تطلب الأمر ادبحي قلبك بسكينة باردة وسيبي ابنك يعيش كأنه مبصر ..علشان يبصر بجد من جواه ). وقد فعلتها الأم بمنتهي الحب والإرادة والقوة والنضج والحكمة والتضحية، جعلت من مصطفي رجلاً بالفعل يعيش الحياة ويمارسها بشكلها الطبيعي، يعيش مراحل حياته طبيعياً، مصطفي الذي حصل علي ليسانس دراسات إسلامية جامعة الأزهر ويدرس للماجستير في معهد للدراسات الإسلامية ولكن باللغة الإنجليزية، مصطفي الذي يهوي ركوب الخيل ويقود السيارة، مصطفي الذي يعبر طريق النصر وحده، مصطفي مبصر القلب والعقل، لديه تحديات سوية لأي شخص سوي، أن يحصل علي وظيفة مناسبة في مجاله أو في غير مجاله، تقدم للعمل في عدة مدارس وقدم لهم عرضًا كاملاً عن أدواته ومهاراته وكيفية تعامله مع الكمبيوتر وكيفية إدارة الحصة والتعامل مع الطلاب ومتابعة الأبحاث لدرجة أبهرت الكثيرين... والمفاجأة التعيسة أنهم علي الرغم من انبهارهم فإنهم يقدمون الأعذار للشاب وفي الكواليس يكون السبب معروفاً «أصله كفيف». في حوار ممتع قال لي مصطفي: تصدقي إن جامعة الأزهر لا توجد بها مكتبة صوتية، يعني علشان أطور من نفسي وأعمل أبحاثي لازم «اسحب» عمر سامح معي - صديقي - الذي يستمتع بهذه المهمة الثقيلة ويقول لي دائماً: يا بني أنا مبسوط لأنك تتيح لي الفرصة إني أتعلم حاجة جديدة.. ويواصل مصطفي: هناك أشخاص في الحياة لم ينعم الله عليهم بصديق مثل عمر سامح، ماذا يفعلون لاجتياز دراستهم ومواصلة أبحاثهم..» مش ده معناه برضه إن المسئولين مش شايفين إن فيه كفيف يستحق أن تتوافر له حقوقه البحثية؟ لكن ماذا أقول عن مجتمع غير مؤهل علي الإطلاق للتعامل مع الكفيف، حتي ولوبحسن نية، فمن الأشياء السخيفة التي تواجه الكثيرين من المكفوفين هي أن تعاطف الناس معهم يتم بدرجة عالية من الاقتحام، إذا سار رجل كفيف في الشارع دون أن يطلب مساعدة، فإذا به قد يجد شخصًا أمسك ذراعه دون حتي أن يستأذنه أو يسأله إذا كان يريد المساعدة، وهذا السلوك يعني اقتحامًا يضيق به الكثيرون من المكفوفين الذين يعرفون كيف يديرون حياتهم دون مساعدة أو اعتماد علي الآخرين . مصطفي الذي يمثل نوراً مفروشاً علي طريقه يفكر كثيراً أن «يمشي» من البلد دي، وعلي حد تعبيره: أنا عارف إني أقدر أعيش زي أي شخص مبصر، لكن بصراحة أنا عايش مش مبسوط في البلد... مش عاوزهم ينجحوا في إنهم يكرهوني فيها»!!! أقول لكل من يشكك في قدرات مصطفي وألوف غيره، إنكم تقتلون ثروة قومية فمن أدراكم أيها الجهلاء بأنكم قد تكونوا بلامنطقكم القاسي تحرمون مصطفي وآخرين كثيرين جداً غيرهم أن يصبحوا مثل المغني التركي شانتراك الذي حطم الرقم القياسي في قيادة السيارات بسرعة 293 كيلومتراً في الساعة، هذا المواطن التركي الذي أهدي نجاحه إلي بلده وأصدقائه المعاقين، قال لهم: أرجوكم أخرجوا من بيوتكم إلي الشوارع وحطموا قيودكم... بإرادتكم تستطيعون تجاوز إعاقاتكم . وهنا في مصر... أمثال مصطفي يريدون الخروج من بيوتهم إلي أحضان شوارع بلادهم ومؤسساتها، يريدون البناء في هذا البلد، لكن البلد ( عندها رأي تاني خالص ) فهي تحاول إخفاءهم في جحور الوطن... أقول لمصطفي وأشباهه الكثيرين... أخرجوا... وأخرجونا معكم !!!