ما زال التردد بشأن وسيلة إثبات أوائل الشهور القمرية يثير لغطاً، أحسب أن الزمان تجاوزه، وأن تقدم العلم الطبيعي والشرعي لم يترك له ما يبرر بقاءه. وخلاصة الأمر أن الحساب الفلكي كما نعرفه اليوم هو الوسيلة المنضبطة لتحديد أوائل الشهور، وأن الرؤية بالعين تكون من باب التيسير وسيلة إثبات أول الشهر لمن يعجز عن الأخذ بالحساب. مع ملاحظة أن الرؤية هي ضابط الحساب ومعياره، بمعني بدء الشهر إذا ثبت حسابياً أن الهلال يولد بعد غروب الشمس بحيث يمكن للعين أن تراه، حتي وإن حال دون تحقق الرؤية عارض مؤقت، كوجود غيم أو دخان أو غبار. وممن ذهب إلي جواز الأخذ بالحساب الإمام «أبو العباس بن سريج» حيث قال: إن الرجل الذي يعرف الحساب، ومنازل القمر، إذا عرف بالحساب أن غدًا من رمضان فإن الصوم يلزمه، لأنه عرف الشهر بدليل، فأشبه ما إذا عرف بالبينة. ووافقه في هذا القاضي أبو الطيب. وأجاز الإمام «تقي الدين السبكي» الأخذ بالحساب الفلكي لتحديد أوائل الشهور القمرية. وأثبت المُحَدِّث الشيخ «أحمد شاكر» دخول الشهر القمري بالحساب الفلكي، بناء علي أن الحكم باعتبار الرؤية معللة بعلة نصت عليها السنة نفسها، والعلة هي قوله صلي الله عليه وسلم: «نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب»، وقد انتفت هذه العلة الآن، فينبغي أن ينتفي معلولها، إذ من المقرر أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً. وروي الإمام « دِينَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ ا قال «النووي» في شرحه لصحيح مسلم عن قوله صلي الله عليه وسلم «فإن غم عليكم فاقدروا له»: قالت طائفة من أهل العلم: معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب. وممن قال بهذا أحمد بن حنبل وغيره ممن يجوز صوم ليلة الغيم عن رمضان، وقال جماعة منهم ابن سريج وابن قتيبة معناه «قدروه بحساب المنازل». وقال الشيخ د. يوسف القرضاوي: وهذا القدر له أو التقدير المأمور به، يمكن أن يدخل فيه اعتبار الحساب لمن يحسنه، ويصل به إلي أمر تطمئن الأنفس إلي صحته. وللشيخ «محمد رشيد رضا» فتوي في جواز الأخذ بالحساب الفلكي، وافقه فيها «القرضاوي»، حيث قال إن الأخذ بالحساب القطعي وسيلة لإثبات الشهور، يجب أن يقبل من باب «قياس الأولي»، بمعني أن السنة التي شرعت لنا الأخذ بوسيلة أدني، لما يحيط بها من الشك والاحتمال وهي الرؤية لا ترفض وسيلة أعلي وأكمل وأوفي بتحقيق المقصود، وهي وسيلة الحساب القطعي. وكثير من الفقهاء الذين يرفضون الحساب، يبنون رفضهم علي الخلط بين مصطلح «الحساب الفلكي» من حيث هو علم منضبط، وبين «حساب النجوم» أو«التنجيم» الداخل في السحر والشعوذة. وهو خلط رد عليه كثير ممن أشرنا إليهم من الأئمة والفقهاء والمحدثين الذين أجازوا الأخذ بالحساب الفلكي. علي أن هناك خلطاً آخر يحتاج إلي تحرير، هو الخلط بين «الحساب الفلكي» وبين حساب آخر كان يقوم به الكهان في الجاهلية، هو حساب الكبس، أو «النسيء» الذي ورد في القرآن الكريم إنه «زيادة في الكفر» والذي كان أساس تسمية الشهور العربية، علي نحو ما تكشفه أمامنا أسئلة تقول: لماذا اختص العرب شهر «المحرم» بهذا الاسم، مع أن هناك ثلاثة أشهر «حرم» غيره؟ وهل كانوا يرجبون أي يعظمون شهر «رجب» وحده، أو علي نحو خاص، ولهذا سموه بهذا الاسم نسبة إلي «الترجيب» أي التعظيم؟ الشواهد تقول لا، وتؤكد أن رجب كان أحد الأشهر الحرم، مجرد أحدها، لا فيه ما يزيد عنها، ولا له من مظاهر التعظيم مظهر مميز. ثم ما حكاية «القتال»؟ وأين هي هذه المعارك الدامية الضارية التي ملأت تاريخ العرب؟ إننا لم نسمع إلا بحروب معدودة، محدودة النطاق في الزمان والمكان: داحس والغبراء، البسوس، وقعة ذي قار.. إلخ، حروب لا تبلغ مهما اتسعت أن تعم العرب كلهم، ولا تبلغ مهما كثرت أن تكون حرباً كل يوم ولا كل أسبوع ولا كل شهر. حسناً: لماذا إذن سيطر «هاجس الحرب» علي أسماء الشهور العربية، فهذا «صفر» لأن الدور كان «تصفر» أي تخلو من أهلها بسبب الحرب، أو لأنهم يتركون من يغزوهم «صفرا» من المتاع. وذاك «شعبان» لأنهم يتشعبون أثناءه في الغارات. وهم سموا «ذو القعدة» بهذا الاسم لأنهم يُقعدون فيه عن القتال، مع أنهم كانوا «يقعدون» عن القتال في غيره من الأشهر الحرم، وغير الحرُم أيضاً، فلم تكن جزيرة العرب معسكر جيش كبير، ولا ساحة للغارات المتبادلة! وكل هذه الأسئلة كوم، والسؤال المتعلق بأسماء الشهور المنسوبة إلي الفصول المناخية كوم آخر. ف«ربيع» الأول والآخر سُميا بهذا الاسم نسبة إلي فصل الربيع، بينما «جمادي» الأول والآخر سُميا نسبة إلي الشتاء البارد الذي يجمد فيه الماء! واعجبوا معي من الشتاء الذي يأتي بعد الربيع! سيقول قائل: كانت العرب تسمي الخريف ربيعاً أيضاً، ونقول له: نعم، صدقت، لكن أليس غريباً أن يأتي شتاء يجمد فيه الماء بعد شهرين فقط من بدء الخريف؟ ولاحظ أن هذه الأسماء وضعت في جزيرة العرب لا في ألاسكا ولا في سيبيريا!، ثم الأغرب هو أن يأتي «رمضان» بعد شهرين فقط من الشتاء القارس، مع أنه منسوب إلي «الرمض» أي شدة الحر، وربما «الرمضي»، وهو كما يقول «الفيروز أبادي» صاحب «القاموس المحيط» : من السحاب والمطر ما كان في آخر الصيف وأول الخريف، أي أن الفاصل شهران فقط بين وسط الشتاء الذي يجمد فيه الماء، ووسط الصيف الذي يشتد فيه الحر، أو آخره حيث «الرمضي»! فأي فصول هذه؟ وأي مناخ عجيب انفردت به جزيرة العرب؟ وقبل هذا كله، وفوقه: هل كان للعرب مجمع علمي واحد، أو هيئة إدارية مشتركة، حتي نفترض أنهم اجتمعوا في لحظة ما وقرروا أن يسموا شهورهم القمرية التي تنتقل بين الفصول بأسماء اشتقوها من الأحوال المناخية والحياتية التي تصادف أنها وافقت شهورهم عندما قرروا تسميتها؟ «الفيروزأبادي» وغيره فيما يقارب الإجماع يفترضون أن الشهور كانت لها أسماء قديمة، وأن العرب قرروا في وقت ما أن يغيروا هذه الأسماء بأسماء أخري، دون أن يقول لنا، ولم يقل لنا غيره، من هم هؤلاء الذين قرروا؟ وما السر وراء هذا القرار؟ وكيف اتفقت قبائل العرب المتناحرة لدرجة أن القعود عن القتال كان استثناء في حياتها يستحق أن تسمي به الشهور كيف اتفقت هذه القبائل علي أسماء أخري جديدة لشهورها؟ ثم إن العُرف في أسماء الشهور المنسوبة إلي ظواهر مناخية عند سائر الأمم، أن تكون هذه الظواهر ملازمة للشهر علي مر السنين، مثل «نوفمبر» المنسوب للريح، و«آذار» أو «أدار» المنسوب لهدير العواصف، أما أن يُنسب شهر قمري ينتقل بين الفصول، ليأتي في الحر وفي البرد، إلي فصل بعينه ومناخ بالذات فهذا هو العجيب. يقول «الفيروزأبادي»: عن سبب تسمية شهر رمضان: «لأنهم لما نقلوا أسماء الشهور من اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق «نائق» وهو اسم رمضان في اللغة القديمة زمن الحر والرمض»! هذا ما يقوله صاحب «القاموس المحيط»، مع أنه لو قلب صفحات قاموسه لاكتشف الصلة الواضحة بين «نائق» و«رمضان»، فإذا كان «الرمض» يعني شدة الحر فإن «نائق» تعني مبالغ، والنيق بالكسر أرفع موضع بالجبل. فيكون معني «الشدة والارتفاع» مشتركاً بين الاسمين، ثم إن هذا الاسم «نائق» لم يكن منتشراً بين العرب كلهم، غاية ما هناك أنه كان موجودا مع غيره في بعض لغاتهم (لهجاتهم) التي توارت لصالح لهجة قريش، خاصة بعد الإسلام. وفي كتابه «المواسم وحساب الزمن عند العرب قبل الإسلام» يقول «عرفان محمد حمور» إن العرب كانوا يعتمدون تقويماً قمرياً شمسياً في الوقت نفسه، قمرياً لأنهم كانوا يبدأون شهورهم بظهور الهلال، وشمسياً لأنهم كانوا يزيدون سنتهم شهراً كل ثلاثة أعوام، وبهذا كانوا يعوضون الفارق بين السنة القمرية، وأيامها 355 يوما تقريبا، والسنة الشمسية، وهي 365 يوما تقريبا، أي أن الفارق بين السنتين 10 أيام، تتراكم كل ثلاث سنوات لتصبح شهرا، كانوا يضيفونه إلي سنتهم القمرية فتصبح مساوية للسنة الشمسية في عدد الأيام، وبهذا تثبت شهورهم القمرية في أماكنها ولا تدور في الفصول كما تدور الآن فكان بعضها يأتي في البرد دائما، وبعضها في الحر دائما. هذا الشهر الذي كان العرب «يكبسونه» أي يضيفونه إلي سنتهم هو «النسيء» الذي أشارت إليه الآية الكريمة «إنما النسيء زيادة في الكفر»، ويقول «حمور» إن العرب أخذوه عن البابليين، الذين اعتمدوا التقويم السومري،وجعلوا سنتهم 12 شهرا قمريا، ولما أدركوا أنها شهور متحركة، كانوا يكبسون بعد أيلول شهراً يسمونه «أيلول الثاني»، يفعلون ذلك كلما لزم التأخير، وقيل إن الذي شرع ذلك هو الملك «حمورابي». وفي ضوء هذه الحقيقة التاريخية يمكن أن نفهم أسماء الشهور العربية، بعيداً عن الأساطير، والادعاءات غير الصحيحة المتعلقة بسيطرة الهاجس الحربي، والفصول العجيبة المقلوبة، وغير ذلك.