تروي كتب التاريخ أن جماعة فيهم أنس بن مالك الصحابي حضروا لرؤية هلال رمضان وكان أنس قد قارب المائة فقال أنس " قد رأيته هو ذاك " وجعل يشير إليه فلا يرونه ، وكان إياس القاضي حاضرا فنظر إلي أنس وإذا شعرة بيضاء من حاجبه قد تدلت فوق عينيه فمسحها وسواها بحاجبه ثم قال " انظر أبا حمزة " فجعل ينظر ويقول " لا أراه " أرأيتم لو لم يكن إياس حاضرا وذهب أنس رضي الله عنه يشهد عند القاضي أنه رأي الهلال لصام الناس علي رؤيته شعر حاجبة إ ذ من يدرك أنس في صدقه وعدالته .. وكم من مرة صام المسلمون علي رؤي زائفة صورها الوهم أو السراب أو أي شئ آخر ..وكم من مرة اختلفت الرؤي في البلدان حتي وصلت الفروق بينها في بعض الأحيان الي ثلاثة أيام .. بل وأحيانا ما دخلت السياسة في تحديد الرؤي لكي تخالف أو توافق كذا أو كذا .. وهنا يعود السؤال القديم الجديد " وماذا عن الحسابات الفلكية ؟ " تشكك الفقهاء منذ الأيام الأولي في الفلكيين إذ كان اكثرهم يجهل هذا العلم لارتباطه عندهم بالتنجيم – وقد كان أكثرالفلكيين كذلك – وتعرض الفلكيون لهجوم شديد منهم واتهموهم بشتي الإتهامات ومن تعلم ذلك العلم من الفقهاء كان يتعلمه ويستعمله علي استحياء .. لذلك كانت اجتهادات العلماء في أكثرها تدور حول الرفض التام لاستخدام تلك الحسابات الفلكية في تحديد الشهور .. بل إن بعضهم زعم الإجماع علي ذلك . ولكن وبعد أن تخلص هذا العلم من تلك الوصمة .. وتقدم العلماء فيه حتي صعدوا إلي القمر ودارت سفنهم في أرجاء الفضاء وبلغت حساباتهم درجة عالية من الدقة .. ألا يحتاج الأمر إلي إعادة نظر واجتهاد جديد يواكب العصر في ضوء فهم جديد للنصوص الشرعية يتخلص من رواسب صعوبات الماضي ؟ بداية نحن لا نتحدث عن عبادة غير معللة وإنما نتحدث عن وسيلة الوصول إليها أما العبادة وهي الصيام فلا خلاف حولها وعليه فلا يوجد مايمنع من البحث في علة الحكم ومدي ارتباط الحكم بها واخضاع المسألة للإجتهاد والنظر المرة بعد المرة حسبما تتوفر العلة الشرعية للحكم خاصة وأن الحساب الفلكي لمعرفة منازل الشمس والقمر ومواعيد وأوقات الشهور بداياتها ونهاياتها ليس مذموما بصفة عامة فقد ذكره القرآن علي سبيل المدح في أكثر من موقع وحث عليه فقال " هو الذي جعل الشمس ضياءا والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب وكل شئ فصلناه تفصيلا " وقال " والقمر قدرناه منازل حتي عاد كالعرجون القديم " يس " 39 " وقد انقسم الموافقون لاستخدام الحساب الفلكي منذ الأيام الأولي للفقه إلي مدارس في مدي اعتباره وحدوده المدرسة الأولي : تري اعتباره نفيا واثباتا لمن يحسنه أما العوام فلهم الرؤية إذ يرون أن عامة الناس لاتحسن الحساب الفلكي للحديث " نحن أمة أمية لانقرأ ولا نحسب الشهر هكذا وهكذا ...يعني مرة تسعة وعشرين ومرة ثلاثين " ورواه مالك في الموطأ والبخاري ومسلم وغيرهما بلفظ "الشهر تسعة وعشرون فلا تصوموا حتي تروا الهلال ولا تفطروا حتي تروه فإن غم عليكم فاقدروا له .. فقدم الحديث عن عدم الحساب علي الحديث عن الرؤية وكأنما جعله علة اللجوء إلي الرؤية رفعا للحرج عن المؤمنين فإن انتفت العلة سار المعلول معها وينسب معني هذا القول لمطرف بن عبد الله – وهو من التابعين – نقله الخطاب من المالكية في مواهب الجليل وقاله أيضا القشيري وبه أيضا قال القاضي ابو بكر بن العربي وقد جمعوا بين روايتي الحديث " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له " وفي الرواية الأخري " فإن غم عليكم فاتموا عدة شعبان ثلاثين يوما " فلم يجعلوا الرواية الثانية تفسيرا للأولي كما ذهب جمهور الفقهاء وإنما قالوا بأن الأولي إنما خوطب بها من يحسنون الحساب والثانية خوطب بها العوام وكلمة فاقدروا له تعني عندهم فاحسبوا له .وليس بدعا أن يخاطب الشارع كل فئة من الناس بالحكم الذي يناسبها في الموضوع الواحد . أما المدرسة الثانية وهي أكثر انتشارا فيرون أن تستخدم الحسابات الفلكية في النفي فقط لا في الإثبات بمعني أنه إن ادعي أحد ثبوت هلال أكدت الحسابات عدم مولده فإن قوله يرد أما ما عدا ذلك فالاعتبار للرؤية وذلك أن الحسابات الفلكية قطعية في اثبات مولد الهلال أما رؤيته فتتأثر بكثير من المتغيرات التي يصعب ضبطها والحصول علي نتائج دقيقة منها مثل انعكاس الضوء علي طبقات الجو العليا وحدة النظر ،والضباب والغمام وزوابع الأتربة . ولما كان الحكم منوطا بالرؤية فإن الحسابات الفلكية لا تفيد في هذا المجال كثيرا وهذ الرأي قال به العلامة القرضاوي في بحث قيم حول هذا الموضوع وقال به الشيخ المراغي وكان يرد شهادة الشاهد إذا عارض الحساب الفلكي وقد عارضه الشيخ أحمد شاكر ثم رجع بعد ذلك إلي رأيه وقدم في ذلك بحثا قيما بعنون " اوائل الشهور العربية " وهو بحث – كما يقول الدكتور القرضاوي – لرجل سلفي خالص ، رجل اتباع لا ابتداع ولكنه لم يفهم السلفية علي أنها جمود علي ما قاله قبلنا علماء السلف بل إن السلفية الحق أن ننهج نهجهم ونشرب روحهم فنجتهد لزمننا كما اجتهدوا لزمنهم ونعالج واقعنا بعقولنا لا بعقولهم غير مقيدين الا بقواطع الشريعة ومحكمات نصوصها .. وقداستدل فيه لمذهبه الجديد واثبت فيه تراجعه وكذا قاله الإمام السبكي وهو أحد كبار الفقهاء الشافعية وقيل أنه بلغ درجة الإجتهاد المطلق وقد نقل كلامه قليوبي في كتابه مؤيدا وهو مااستقر عليه مؤتمر الكويت عام 1409 وقدمت مباحث بمعناه في مجمع البحوث الإسلاميةمن بعض علمائه وهو قول ابن رشد والقرافي وكلام السبكي في هذا المقام جميل نسوقه مجملا لهذا الرأي يقول " إن الحساب قطعي والشهادة والخبر ظنيان والظن لا يعارض القطع فضلا عن أن يقدم عليه والبينة شرطها أن يكون المشهود به ممكنا حسا وعقلا وشرعا ، فإذا فرض دلالة الحساب قطعا علي عدم الإمكان استحال القول شرعا لإستحالة المشهود به والشرع لايأتي بالمستحيلات ولم يأت لنا نص من الشرع أن كل شاهدين تقبل شهادتهما سواء كان المشهود به صحيحا أو باطلا قد يحصل لبعض الأغمار والجهال- هذا من كلام الشيخ وليس من كلامي – توقف فيما قلناه ويستنكر الرجوع إلي الحساب جملة و تفصيلا ويجمد علي أن كل ما شهد به شاهدان يثبت ، ومن كان كذلك لا خطاب معه ونحن إنما نتكلم مع من له أدني تبصر والجاهل لا كلام معه " وهو هنا يرد علي من انكروا عليه أن يرد شهادة شاهدين زعموا أنهم رأوا الهلال بالمخالفة للحساب الفلكي وبعد لايخفي علي أن الكلام له منطق فقهي مقبول سواء من حيث فهم النصوص أو من حيث أثره في في إزالة سبب هام من اسباب إختلاف الأمة دون سبب موضوعي لهذا الخلاف .. وإني لأتمني أن تأخذ مسألة الحساب الفلكي في تحديد أول رمضان حظها من الدرس والإهتمام من علمائنا الأفاضل لعل الله أن يجعل فيها سببا لاتفاق كلمة المسلمين علي أوائل الشهور التي تشتعل كل عام في مثل هذه الأيام . . وكل عام وأنتم بخير وتقبل الله منا ومنكم صالح الأعمال .