إذا كانت توصيات اللقاء التحضيري للقمة الثقافية العربية التي عقدت في بيروت منتصف الشهر الماضي بعيدة عن المنطق ومفارقة للواقع فيما يتعلق بقضية اللغة العربية والحفاظ عليها، فإن باقي التوصيات سارت في مسار مغاير. فقد تضمنت التوصيات التي تبناها اللقاء في نهايته مجموعة من الأمور المهمة، في مقدمتها التوصيات المتعلقة بصيانة التراث، والمحتوي الرقمي العربي علي الإنترنت، والحوار بين الثقافات، وحماية حقوق الملكية الفكرية، والسوق الثقافية العربية المشتركة. ففيما يتعلق بصيانة التراث جاء في مقدمة التوصيات: تأسيس مركز عربي لصيانة التراث وحمايته بهدف رصد وحصر أشكال التراث المادي وغير المادي كافة في الدول العربية، وإنشاء قاعدة بيانات إلكترونية للتراث في العالم العربي بالّلغة العربية والّلغات الرئيسة الرسمية المتداولة في المنظمات الدولية. وانتبه اللقاء في توصياته كذلك إلي التأثير الإيجابي لنشر ثقافة الاهتمام بالتراث في المجتمع علي تحول الحفاظ عليه إلي هم عام، ومن هنا تضمنت التوصيات التأكيد علي أهمية العمل التثقيفي في مجال التراث، وضرورة التوعية بأهمية المحافظة علي التراث بأنواعه وأشكاله كافة، خصوصاً لطلبة المدارس والجامعات، مع التركيز علي إجراء الدراسات والبحوث الخاصة بمختلف عناصر التراث الثقافي، وبناء القدرات البشرية التي تستوجبها مستحقات التراث. وأشارت التوصيات كذلك إلي ضرورة العمل علي استرداد ما تمّ فقده من الكنوز التراثية في عالمنا العربي بالتنسيق مع الجهات المعنية، وعديد من بلداننا العربية فقدت الكثير من تراثها المادي والمخطوط في مراحل مختلفة من تاريخنا. ولا شك في أن الاهتمام بالتراث أمر قائم ومتحقق بدرجات متفاوتة في مختلف الدول العربية، وهناك دول عربية في مقدمتها مصر حققت إنجازات مهمة في هذا المجال، وربما تكون الإضافة التي تشكلها مناقشة مثل هذه القضايا في قمة عربية تتمثل في توفير مزيد من الدعم لقضية الحفاظ علي التراث، كما أنها قد تكون مناسبة لطرح إمكانيات التعاون العربي العربي في هذا المجال، وفرصة للاستفادة من خبرات الدول التي حققت تراكما في مجال الحفاظ علي التراث وتوثيقه. وفي مقابل هذا الاهتمام بالتراث القديم في العالم العربي كان هناك اهتمام واضح بالتوصيات التي تتعلق بتطوير المحتوي الرقمي العربي علي الإنترنت، وهي قضية شديدة الأهمية في عالم اليوم، وقد تحققت فيها بالفعل منجزات تتفاوت من بلد عربي إلي بلد آخر، سواء علي مستوي تطوير البنية الأساسية الرقمية، أو علي مستوي المحتوي الرقمي العربي الذي يتطور يوما بعد يوم، وفي هذا المجال لابد من رصد جهود حكومية وجهود أهلية وجهود فردية متعددة، لكن الأمر ما زال يحتاج الكثير والكثير من العمل في هذا المجال حتي تحتل الثقافة العربية بقديمها وجديدها مكانا لائقا علي خريطة المعرفة الجديدة. وتحت عنوان «دعم المحتوي الرقمي العربي علي شبكة الإنترنت»، وانطلاقا من العلاقة الوثيقة بين المحتوي العربي الرقمي والتنمية المستدامة علي المستويات كافة، وإدراكاً للتغيرات النوعية المتسارعة لثقافة مجتمع المعرفة، ومن منطلق الفهم لطبيعة الإنترنت القائمة علي حرية تداول المعلومات والبيانات والآراء أوصي المجتمعون بعدم وضع أي قيود محلية أو دولية تؤثر في تطور المسار الرقمي في عالمنا العربي، وربما تكون هذه التوصية هي الأهم والأخطر بين توصيات اللقاء، فبدون مساحات أوسع من الحرية لن نتمكن من تطوير المحتوي الرقمي العربي، بل لن نتمكن من الحفاظ علي مكان ومكانة للثقافة العربية في عالم اليوم. وفي نفس سياق التوصيات المرتبطة بالمحتوي الرقمي العربي، أوصي اللقاء بضرورة وضع سياسات عربية رشيدة ومتوازنة للتعامل مع الشركات العالمية في تكنولوجيا المعلومات بهدف ضمان الإسهام العربي الفعال في صناعة المحتوي الرقمي، والتأكيد علي أهمية توحيد قوانين الملكية الفكرية الواجب تطبيقها في العالم العربي بشكل لا يعيق إثراء المحتوي العربي علي الإنترنت، والعمل علي سدّ الفجوة في تشريعات الإنترنت بشكل يضمن الحفاظ علي الخصوصية الفردية ولا يتعارض في ذات الوقت مع حرية التعبير والنشر وتبادل المعلومات. كما أوصي اللقاء في ختام توصياته المتعلقة بقضية الرقمنة، بضرورة الشروع في الحفاظ علي الذاكرة العربية الرقمية عن طريق أرشفة المخزون العربي الرقمي وتوثيقه، والعمل علي رأب الفجوة الرقمية المتفاقمة للّغة العربية واعتبارها الّلغة الأساسية لصناعة المحتوي الرقمي العربي بأقصي استغلال لإمكانات حوسبتها التي تتيحها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في ذلك. وللحديث بقية.