ما أنا بحالم. لذلك جفوت جبران خليل جبران. كان موقفي منه موقف جدي من الجوافة. سألته يوماً: هل تحب الجوافة؟ فقال: إنغابت وإنحضرت، يعني بالفصحي: سواء عليَّ أغابت أم حضرت. ثم فاجأني جبران بمقال له قرأته قبل يومين. في عام 1923 طلبت مجلة الهلال من كبار أدباء العرب في مصر وخارجها أن يقولوا رأيهم في النهضة المباركة (وكانت مصر سنتئذ تدشن دستوراً وبرلماناً قال فيه شوقي: دار النيابة قد صُفت أرائكها/ لا تُجلسوا فوقها الأحجار والخشبا)، وجاء مقال جبران جارفاً: أية نهضة؟ نحن نقلد فقط، ونحسب الإسفنجة التي امتصت بعض الماء نبعاً. لدينا مقدرة علي الاقتباس السطحي لا غير، ونحن ننظر بمكبرات الجهالة فنري النملة فيلاً. الاستعمار قادم وبشع. ويجب التمسك بحضارتنا بدلاً من استيراد البضائع والأفكار دون أن نصنع شيئاً بأنفسنا. وتافهون أولئك الذين يرسلون أبناءهم للمعاهد الأجنبية ويتجملون بالاستماع إلي الموسيقي الأوروبية التي لا تعبر عن مكنون نفوسهم. اه التلخيص المخل عن جبران. ذلك الكتاب «موجود ع النت» كما يقولون، واسمه «فتاوي كبار الأدباء». وقد ذكَّرني بكتاب آخر كنت أنا محرره. هذا الكتاب الثاني اسمه "شاهد علي المستقبل". وحكايته أنني فكرت قبل ست سنوات في استنطاق خمسين شخصية فلسطينية من وزراء وأدباء ونشطاء ونساء، وكل ما ينتهي بهمزة مزيدة، عن مستقبل فلسطين وسلطتها. وبالفعل تم إجراء خمسين مقابلة مسجلة. وقد ذيلت الكتاب بمؤخرة جاء فيها: «أردناهم أن يرسموا صورة للمستقبل، وأعطيناهم علبة ألوان زاهية. فغمسوا فراشيهم في برميل زفت، ورسموا لوحة بعرض (الجدار) للماضي الأسود والحاضر الأشد سواداً. كأنما قالت الشخصيات الخمسون: ليس عندنا تصور للمستقل». أهل الرأي في بلادنا - وأتكلم عن مصر وفلسطين وعن كل بلد عربي - يخافون من تصور المستقبل خوف الصبي من دخول غرفة معتمة. وفي اعتقادي أن المستقبل مظلم حقاً. لا مستقبل لنا، خذوها من قصيرها. المستقبل في بناء الذات لا في هدم الآخر. وبما أنني ضيف علي الجمهور المصري فلا أبيح لنفسي التحدث في السياسة - الآن علي الأقل -، لذا سأحاول رؤية البصيص في الاقتصاد. منظمة التجارة الدولية ومعاهدة الجات، وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هذه هياكل دولية هشة نقف إزاءها وقفة المتهيب. لقد أسسوها لمنفعتهم، ونحن دخلنا الحظيرة كالقطيع. مقابل ماذا؟ مقابل مساعدات تافهة. ممنوع أن ندعم سعر الرغيف، وممنوع أن نفرض الجمارك إلا بقدر. هل سننتظر حتي تتأفف الدول الغنية من شروط الجات حتي نتأفف نحن؟ حسناً! فقد تأففت الدول الغربية، فتفضلوا تأففوا. إن السماح بدخول كل جزم الصين وفوانيسها إلي أسواقنا بلا حماية جمركية يلغي مصانعنا، ويفقدنا المهارات الصناعية، ويخرب اقتصادنا. وإلغاء الجمارك علي الحلوي الأجنبية يجعل المواطنين شرسين: يدمنون علي الشوكولاتة السويسرية، ويناضلون في سبيل الاستمرار في استيرادها.. مطرح ما يسري! ولكي يخدموا حلمات التذوق في أفواههم يبيع الأغنياء البلد بالمفرق. قدم ديجول أمثولة في الاستقلال الاقتصادي. كان رائداً للحمائية، وانصاع له العالم الرأسمالي غصباً. حارب ديجول الطفيلية البورصية وتهريب الأموال إلي موناكو، وجعل الأمير رينيه يركع علي ركبتيه ويغلق الباب أمام المليونيرين الفرنسيين الفارين. وأخذت الضرائب والجمارك تتدفق علي خزينة الدولة واستعملت في توجيه الاقتصاد القومي وبناء الصناعة والتعليم. وأضاف ديجول إلي ذلك نبرة الاعتزاز القومي. لا، بل إن تلك النبرة كانت عنصراً تكوينياً في سياسته الاقتصادية. فهو لم يكن مستخذياً أمام واشنطن المتفضلة بمشروع مارشال. كان ابن الأمة ورئيسها فعمل خادماً لشعبه وليس وكيلاً لأغنيائه. مشايخ السيف والتكفير والحسبة عندنا أخذوا بمبدأ (اعمل لآخرتك)، ونسوا (اعمل لدنياك)، وتركوا الأغنياء ووكلاءهم (أي الحكومات) يسرحون. وبما أن العمل للآخرة مسألة فردية فهو ليس المشكلة. وأما العمل للدنيا فشأن آخر. النهضة المقبلة - إن كانت ستقبل - سيكون فيها حماية جمركية لمصانعنا وبضائعنا، وسيكون فيها اعتزاز وطني وعدم استخذاء أمام واشنطن، وسيكون فيها صناعة وزراعة متطورة، ولابد أن يركع المستثمرون من أصحاب المنتجعات السياحية علي ركبهم، وأن يعطسوا ضرائب باهظة تذهب لتطوير البلاد. كاتب فلسطيني