الشعر والمسرح توأمان، فلن تكاد تجد شاعراً ينجو من الغرام بالمسرح.. بفنونه وخشبته وتلك المسافة الساحرة بين الممثلين وبين الجمهور فلا هي حاجز حقيقي مانع، ولا هي تسمح باللمس واختراق الخيال.. المسرحيون أيضاً يغرمون بالشعر يجدون نفس السحر في المسافة التي تحيط بالشعراء وأبياتهم.. مسافة تغذي الخيال.. تفتح المدي للكلمات والمعاني فتزيدها سحراً علي سحر. ربما ينجح البعض في اختراق تلك المسافة دون أن يفسد الخيال أو يُضيِّق المدي؛ هذا ما حاول هؤلاء الشباب فعله في عرض «سكتم بكتم» الذي قدموه من خلال فرقة الغد للعروض التراثية والذي يعرض - للمرة الثانية - في قاعة الغد التجريبية. هي محاولة للمس كلمات عمنا «صلاح جاهين» أو لنقل هي محاولة بريئة لقراءتها وإعادة تشكيلها وصياغتها لتصبح نصا درامياً يحمل حوارا وأحداثاً وشخصيات.. علي خلفية أساسية هي أوبريت «الليلة الكبيرة»، بدأت أحداث العرض بخرجت شخصيات الأوبريت أمامنا حية تنبض وتحب وتتكلم: الأراجوز والريس حنتيرة وشجيع السيما بالإضافة لشخصيات مبتكرة، كالفيلسوف وحبيبة الأراجوز ونساء الحارة.. الحوار تمت صياغته كاملاً من أعمال جاهين الرباعيات والأغاني والليلة الكبيرة؛ وبرغم عمق الكلمات فإن تقطيعها وصياغتها بهذا الشكل أفقدها الكثير من النغم والإيحاء الذي كُتبت به فشطرة من رباعية علي أخري من الليلة الكبيرة علي كلمة من إحدي الأغنيات لن تضيف إلي الإحساس ولن تثري الخيال بأي حال، بل علي العكس فلولا الثقة في نية صانعي العرض لبدا الأمر كأنه اجتراء لا يليق علي عصارة روح العم الأسطورة.. حاولت «دعاء طعيمة»- معدة العرض ومخرجته - أن تصنع بناءً درامياً متماسكاً غير أنها لم تنجح طوال الوقت في ذلك ؛ وإذا حاولنا تناوله باعتباره مجموعة اسكتشات منفصلة فستظل غير مكتملة وغير ناضجة.. ربما لا يكون المطلوب من الشباب الذي يخطو أولي خطواته الإبداعية أن يتقن كل شيء أوألا يخطئ في التفاصيل، ولكن ليس إلي حد أن يخطئ صناع العرض بنسب أعمال إلي صلاح جاهين لم تكن من تأليفه كأوبريت «صغيرة علي الحب» الذي كتبه حسين السيد أو مطلع أغنية سيد درويش «الصهبجية» التي ربما نسج عليها جاهين كلمات جديدة بعد ذلك لكنهم هنا استخدموا المطلع الذي لم يكتبه صلاح جاهين! العرض ثري بالمواهب والقدرات الإبداعية الحقيقية التي ساعد الجو العام للعمل في إبرازها فهناك مساحة جيدة للأداء التمثيلي والغنائي ولتصميم الديكور والملابس والاستعراضات، وهناك أيضاً عنفوان الصبا وحماس البداية وتلك الحالة التي تنتاب الشباب علي أعتاب النضج وهي إستكشاف العالم الإبداعي لأول مرة المعاني والمشاعر والأفكار، وإحساسهم بمتعة الكشف ورغبتهم في إعلان ما اكتشفوه للآخرين؛ فقط تكمن المشكلة في افتقاد النضج وذلك الأفق البريء المحدود الذي تفرضه خبرتهم وتجربتهم والذي سيتجلي بوضوح عندما يكون التعامل مع كلمات شاعر بحجم صلاح جاهين. برع محمد عادل في دور الأراجوز بحضورٍ واثق وأداء جسدي متقن وخفة روح ووعي بالكلمات وإيحاءاتها كذلك الشباب في أدوار الفيلسوف، وشجيع السيما والشحات والجارتين وغيرهم؛ كذلك مجموعة الأطفال الذين أضفوا علي العرض جانباً من روح جاهين العاشق للطفولة.. الاستعراضات كانت متميزة ومتقنة صممها محمد سميح وأداها الممثلون جميعاً بخفة حركة ورشاقة حتي من يحمل منهم جسداً ثقيل الوزن! الديكور كان معبراً صممه محمد أمين، والملابس رائعة لمني حامد.. الإخراج لدعاء طعيمة تميز في التشكيل الحركي للممثلين وفي استخدام الأطفال ولكنها ظلمت نفسها إذ اختارت أن تقدم عملاً من إعدادها يفتقد للكثير من التماسك والنضج الفكري. قدم شباب العرض المسرحي «سكتم بكتم» عملاً في حب صلاح جاهين أرادوا به دخول العالم الرحب للشاعر الأسطورة فأخذونا معهم لنطل عليه من بوابتهم الصغيرة!