تحدثنا عن هيمنة السلطة علي الجسد، حدوده وحركته، وصلة الجسد الفردي بتصورات الجسد السياسي في صورة قومية واحدة أو أمة وطنية أو عرقية دينية أو عالمية..والحدود التي يضعها ذلك علي الفرد ووعيه بذاته وتصنيف الجسد بحسب اللون والانتماء لجماعة مركزية أو فرعية أو كونه امرأة أو رجلاً في ثقافة تضع علي جسد المرأة وحركته في المجال العام قيودا تختلف عما يتعرض له الرجل، فضلا عن سياسات العلاقة بينهما التي قد يحكمها العرف وقد يحكمها القانون، وفي النهاية تبقي الدولة حاضرة في التمييز ، تعتقل الرجال وتتحرش بالنساء أو تصادر حق الاثنين في الحركة في مساحات الوطن والمدن والمشاركة السياسية. وليس الجسد مركز الوجود الإنساني، لكنه أحد الأبعاد المهمة والمكونات الرئيسية التي طالما تم تجاهلها في ثقافات في مقابل الهوس به في ثقافات أخري، فللوجود الإنساني مقومات متعددة وطبقات غنية متراكبة، لذا فحين يغدو الجسد الفردي هو الهاجس الأكبر ومدار تشكيل رؤية الفرد عن نفسه ورؤية المجتمع عن الإنسان يتم اختزال الوجود الانساني في بعده المادي الظاهر وتتواري الأبعاد الباطنة النفسية والروحية والفكرية ، ويصبح تصورنا عن الإنسان هو ما سماه البعض "الإنسان ذو البعد الواحد"، وفي هذه الحالة يتجلي هذا في ترتيبات اجتماعية وطقوس يومية للاحتفاء بالجسد وفي الغالب وضعه في قوالب وصور نمطية، يستوي في ذلك الولع بكشفه وثقافة العري وتجارة الجسد وحمي جراحات التجميل والمبالغة في الاعتناء بتفاصيله إلي حد الجنون والاهتمام بالرسائل التي يرسلها الجسد لأنه يصير المعبر الوحيد عن الشخصية، وبدلا من أن تكون لغة الجسد واسطة تدعم اللغة المنطوقة تصبح هي اللغة شبه الوحيدة، ويتواري المجاز ويتم سحق الخيال والرومانسية لأنه كما يقول الغربيون:"ما تراه هو ما ستحصل عليه"، لذا يصبح المشهد الاجتماعي هو مشهد الاستعراض بالأساس. لكن قد تنقلب هذه المنظومة في ظل بعض الالتباسات والتشويه الذي تتعرض له الثقافة الدينية في مراحل الانتقال المتعثرة من التاريخ لمرحلة الاستعمار إلي العصر الحديث فيصبح الجسد أيضاً في هذه الثقافة مركزيا لدرجة الهوس، وفي مقابل التعرية والكشف يكون الاهتمام الزائد بالتغطية والحجب، ويسري هذا علي أجساد الرجال والنساء علي حد سواء، وبدلا من أن يكون الجسد معبراً وجسراً للروح يصبح هو التعبير المركزي عنها بما يختزل ويسطح الكثير من المعاني العميقة، ويحول الرمز إلي مركز، فلا تتحقق مقاصد الشرع بل تتعرض للتآكل، ويصبح الظاهر أهم من الباطن، والشكل أهم بكثير من المضمون. أجسادنا جزء مهم من وجودنا، بها نسعي وبها نتحرك، والحواس هي الجسور التي تربطنا بالحياة، والغرائز لها وظائف، والتحدي هو كيف يحدث كل ذلك في تناغم وتجانس يحقق للإنسان غاية وجوده في الكون ويكفل له الحياة الطيبة دون أن تصبح الدنيا هي أكبر همه والجسد هو منتهي ذاته. وما بين زينة الجسد والتفاصيل الكثيرة التي تعكسها هذه الزينة في حالة الرجال والنساء (الشكل والرائحة والتجمل والملابس القومية والأمكنة الخاصة والعامة وصولاً لثقافة الوشم ومعايير الرجولة والأنوثة من الحناء للخواتم لصبغ الشعر كي يبدو صاحب الثمانين في صورته الرسمية وكأنه في الأربعين)، مروراً بالأعراف الاجتماعية التي تحكم تقديم الجسد كواجهة للآخرين تعبر عن الذات (النحافة أو الأناقة أو السلع التي يستخدمها الجسد في حركته من ملابس أو سيارات ، أي مقتنيات الجسد التي لا تنفك عنه في حركته اليومية وتعبر عن رسالة ما عن الخلفية الاجتماعية والاقتصادية)، و صولا لمساحاته التي تتعاطي مع تفاصيل اليوم، بل وإلي تحييد الجسد لتتحقق المساواة في المواطنة والمكانة، ضد تمييز الجسد وربطه بخصوصية المكان في الفصل بين الأغنياء والفقراء في المدن الجديدة، أو تراكم أجساد الفقراء في الغرف الضيقة والمواصلات لأن الدولة عجزت عن أن تقدم لهم مساحات للسكن أو وسائل للانتقال تحترم كرامة الجسد وحقه في دائرة من الخصوصية والاحترام. أفقياً ورأسياً نتحرك بهذا الجسد في دروب الحياة، يتم قمعه تارة، وقد ينطلق متحررا تارة أخري، لكن يظل في كل الأحوال والدوائر محكوما بعنصر الزمن، هذا الزمن الذي يفرض علي الجسد تحولات لا حيلة له فيها، قد يقاومها الفرد بسبل متنوعة، بالرياضة تارة، وبالمنشطات التي تشعره أنه مازال شابا يمارس ما يشتهي تارة أخري، وقد يخفي خلف ألوان كثيفة تجاعيد الوجوه أو شيب الرؤوس، لكن للجسد أجل، وحين تغادره الروح في لحظة لا فرار منها يعود الجسد للتراب ، ولكن المجتمع يبني حتي في تلك اللحظة طقوسه التي تجعل من التعامل مع مشهد الجسد الميت معياراً للثقافة الطبقية والفئة الاجتماعية، وشتان بين تكلفة دفن ميت كبار القوم وميت بسطاء الناس، لكن ربما لحظة الدفن هي لحظة المساواة الحقيقية، حين يستقر الجسد في التراب وتنتهي مسيرة الحياة الدنيا. أجسادنا مرآة لبعض أبعاد الوجود والذات، وكثير من أبعاد الاجتماع والاقتصاد والسياسة..ونحتاج أن نتأمل في كل ذلك.. أكثر