هناك علاقة وثيقة بين الجسد والحرية لكن يظل الخلاف بين المدارس الفكرية هو خلاف حول تحديد معنى الحرية. وأجسادنا لم تكن فقط عبر التاريخ السياسي مادة للضبط والترويض أو هدفاً للتنكيل والقتل فحسب، بل كانت معبرًا وجسرًا للحرية حين وقفت تلك الأجساد متراصة في مواجهة المظالم وقبلت أن تكون ثمنًا زهيداً للانعتاق والتحرر. في كتابه عن العقد الاجتماعي يرسم المفكر الفرنسي «جان جاك روسو» صورة لحالة الطبيعة الأولي التي اخترعها المفكرون في أوروبا كتصور افتراضي عن نشأة الدولة هروباً من هيمنة فكرة الحق الإلهي للملوك في الحكم، فأراد روسو أن يرسم صورة منبتة الصلة بالنص الديني في حكايته عن نشأة المجتمع السياسي عبر قصص الأنبياء في التوارة والإنجيل، فقد كانت الفكرة العلمانية مسيطرة آنذاك قبل أن تندلع الثورة الفرنسية. قال روسو: إن الإنسان كان سعيدًا في حالة الطبيعة لا يدرك معني الثروة والملكية ويعيش في سلام مع الطبيعة وإن الدخول في عقد اجتماعي مع الآخرين ومع السلطة الحاكمة التي يقيمها هذا العقد كان أمراً حتمياً لتنظيم أدوات القوة وضمان نشأة السلطة لكن لا داعي لتحويل ذلك لمثالية وأسطورة كبري، فالإنسان ولد حراً وهو الآن في ظل هذه المدنية مكبل بالقيود، والأمن الذي من أجله ضحي بانطلاقه دون قيود في حرية مطلقة لم يتوفر له بالقدر الذي يريد، ومن هنا فكرته عن الاغتراب التي تتشابه مع بعض أفكار «ماركس» عن غربة الإنسان في ظل الرأسمالية عن حالة مشاع الثروة التي يفترض أنها سادت في المرحلة الأولي من تاريخ البشرية. الشاهد في هذه الأفكار التي نحتاج أن نقرأ منطلقاتها السياسية دون التزام بمنطلقاتها الفلسفية واللادينية بالضرورة هو أن رحلة التاريخ السياسي هي رحلة أجسادنا في صراعها مع السلطة في العصر الحديث ، تريد السلطة أن تهيمن علي أجسادنا لتبني «الجسد السياسي» أي الكيان القومي الذي تسميه الدساتير الشعب والذي يتحدث الجميع باسمه لكن هو ذاته بلا لسان في الغالب، فيصبح الكلام باسم هذا الشعب الأخرس هو لعبة الاستبداد، في حين تناضل أجسادنا كي تحتفظ بالنسيج الحي للمجتمع الانساني في مواجهة هذا التصور السياسي القائم علي فكرة النظام وليس فكرة الرحمة أو العدالة بالضرورة وإن زعم غير ذلك. القانون هو أداة السيطرة، ومن يضع القانون هم المستفيدون منه، ولعبة التمثيل والنيابة تدفع لكراسي البرلمان من لا يستحق لكنه يستطيع بالثروة والنفوذ أن يمارس التشريع ضد إرادة الناس وفي الغالب ضد شرع الله وإن طنطن بغير ذلك ووضع ديباجات في قوانينه لتغطية ذلك أو ادعي أن الشرع سكت عن قضايا وهي عين ما تحدث فيه الشرع الذي يحرم الربا والاحتكار وأكل أموال الناس بالباطل وبيع سيادة الأوطان. التاريخ العسكري أيضاً هو تاريخ أجسادنا، من الذي مر من هنا بسلام ومن الذي دفناه في أرضنا ليصبح قبره شاهدًا علي نضالاتنا الطويلة ضد الاستعمار، وذاكرة الأمة هي ذاكرة الشهداء الذين تمت المتاجرة بدمائهم علي موائد المفاوضات في القصور الفخمة وتبادل كلمات المجاملة اللزجة احتفالاً ببيع النصر.. بثمن بخس. أجسادنا هي درعنا في مواجهة فرعون وهامان، وهي ساحة تعبيرنا عن الاحتجاج حين تحتل مدرعات الأمن كل المساحات، وهي آلة نواجه بها السحق وهي طائر له أجنحة حين يحلم ويسير في أسراب نحو الحقيقة ليكشف زيف الخداع والسراب. أجسادنا ضعيفة ، لكن قطرة دم تسيل منها تكتب للشهيد الخلود، وكل يوم يمر عليها وهي في السجن يحرمها من الحركة والسعي هو رصيد لغد أفضل، أجسادنا الواقفة أمام باب الحرية تدق عليه بقوة وإصرار هي التي ستفتح بالأيدي المخضبة هذه الأبواب لأن أجسادنا تدفع الثمن علي كل حال، ثمن الذل وثمن الكرامة، ثمن الهزيمة وثمن النصر، ثمن الغفلة وثمن الوعي. نفكر بعقولنا ونحلم بأفئدتنا ونتحرك بأجسادنا، قد نخفي الفكرة في الضلوع نسترها من عين المتلصصين والمستبدين لكن أجسادنا يوما ما لا بد أن تقرر في أي مساحة ستتحرك من أجل أن تتحدي وتقرر العصيان. لم يكن جسد أحمد ياسين جسدا قويا بل كان جسدًا عاجزًا لكنه يحمل في داخله روحاً متقدة حركت شعبا في انتفاضة سيذكرها تاريخ الشعوب حتي وإن غابت في تأريخ الدول، ولم يكن جسد محمد الدرة جسد المقاتل لكن قتله جعل جسده المسجي رمزاً لجيل من أطفالنا استعاد عبر هذا الجسد المقتول ذاكرته المسلوبة. أجسادنا مرآة لكرامتنا أو شاهد علي خنوعنا.وجوهنا..أقدامنا..أيدينا..جلودنا وأعيننا. ويذكرنا أمل دنقل بالمعني العميق للجسد حين يقول: ((معلق أنا علي مشانق الصباح وجبهتي بالموت ..محنية لأنني لم أحنها ..حية)) أجسادنا هي الأعلام الحقيقية للأوطان..بألوانها كلها.