حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة واحدة، وكانت أعظم حجة في التاريخ وأفضلها، أقام فيها شعائر الله تعالى، وعظّم حرماته، وصدع بدينه، وبين للناس مناسكهم، وخطب ينذرهم ويعلمهم ويبشرهم. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما انه قال: "وقف النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج بهذا، وقال: «هذا يوم الحج الأكبر»، فطفق النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم أشهد، وودع الناس»، فقالوا: "هذه حجة الوداع" نص خطبة الوداع وقف عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة في عرفة، وخطب في الناس خطبة عظيمة بليغة بين فيها الحقوق والحرمات، ووضع فيها مآثر الجاهلية تحت قدميه، وأوصى بالنساء، ودل الناس على سبيل العصمة من الضلال، ثم أشهدهم على بلاغه فشهدوا في ذلك الجمع العظيم شهادة ما اجتمع حشد مثله يشهدون على مثل ما شهدوا عليه، فقال عليه الصلاة والسلام في تلك الجموع العظيمة: "أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولى، فإنِّى لا أدرى لعلِّى لا ألقاكم بعدَ عامى هذا، بِهذا الموقِفِ أبدًا". "أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكم وأموالَكم عليْكُم حرامٌ، إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا، وَكحُرمةِ شَهرِكم هذا، وإنكم ستلقونَ ربَّكم، فيسألُكم عن أعمالِكم وقد بلَّغتُ، فمن كانت عندَهُ أمانةٌ فليؤدِّها إلى منِ ائتمنَهُ عليْها، وإنَّ كلَّ ربًا موضوعٌ، ولكن لَكم رؤوسُ أموالِكم، لا تظلِمونَ ولا تُظلَمونَ قضى اللَّهُ أنَّهُ لا ربًا وإنَّ ربا العبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلبِ موضوعٌ كلُّهُ، وإنَّ كلَّ دمٍ كانَ فى الجاهليَّةِ موضوعٌ، وإنَّ أوَّلَ دمائكم أضعُ دمَ ربيعةَ بنِ الحارثِ بنِ عبدِ المطَّلب- وَكانَ مستَرضَعًا فى بنى ليثٍ، فقتلتْهُ هُذيلٍ- فَهوَ أوَّلُ ما أبدأُ بِهِ من دماءِ الجاهليَّةِ". " أما بعدُ أيُّها النَّاس، إنَّ الشَّيطانَ قد يئِسَ أن يعبدَ فى أرضِكم هذِهِ أبدًا، لَكنَّهُ أن يطاعَ فيما سوى ذلِكَ فقد رضِى بهِ مِمَّا تحقِّرونَ من أعمالِكم، فاحذروهُ على دينِكُم". " أيُّها النَّاسُ: «إِنَّمَا النَّسِىءُ زِيَادَةٌ فِى الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ»، ويحرِّموا ما أحلَّ اللَّهُ، وإنَّ الزَّمانَ قدِ استدارَ كَهيئتِهِ يومَ خلقَ اللَّهُ السَّمواتِ والأرضَ، وَ«إنَّ عدَّةَ الشُّهورِ عندَ اللَّهِ إثنا عشَرَ شَهراً منْها أربعةٌ حُرُمٌ»، ثلاثةٌ متواليةٌ، ورجبُ الَّذى بينَ جُمادى وشعبانُ". "أمَّا بعدُ أيُّها النَّاسُ، فإنَّ لَكم على نسائِكم حقًّا ولَهنَّ عليْكم حقًّا، لَكم عليْهنَّ أن لا يوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكرَهونَه، وعليْهنَّ أن لا يأتينَ بفاحشةٍ مبيِّنةٍ، فإن فعلنَ فإنَّ اللَّهَ قد أذنَ لَكم أن تَهجُروهنَّ فى المضاجِعِ، وتضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مبرِّحٍ، فإنِ انتَهينَ فلَهنَّ رزقُهنَّ وَكسوتُهنَّ بالمعروفِ واستوصوا بالنِّساءِ خيرًا، فإنَّهنَّ عندَكم عَوانٍ لا يملِكنَ لأنفسِهنَّ شيئًا، وإنَّكم إنَّما أخذتُموهنَّ بأمانةِ اللَّهِ، واستحللتُم فروجَهنَّ بِكلمةِ اللَّهِ، فاعقلوا أيُّها النَّاسُ قولى، فإنِّى قد بلَّغتُ وقد ترَكتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُم بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا، أمرًا بيِّنًا كتابَ اللَّهِ وسنَّةَ نبيِّهِ". "أيُّها النَّاسُ، اسمعوا قولى واعقِلوهُ تعلمُنَّ أنَّ كلَّ مسلمٍ أخو للمسلِمِ، وأنَّ المسلمينَ إخوَةٌ، فلا يحلُّ لامرئٍ من أخيهِ إلا ما أعطاهُ عن طيبِ نفسٍ منه فلا تظلِمُنَّ أنفسَكمُ اللَّهمَّ هل بلَّغتُ قالوا: اللَّهمَّ نعَم، فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: اللَّهمَّ اشْهَدْ". معاني عظيمة وهذه الخطبة فيها من المعاني شيء عظيم، وقد جمعت الأصول التي فيها صلاح الناس في معاشهم ومعادهم، ومن ذلك: * تحريم الدماء والأموال، وجعل حرمتها كحرمة الشهر الحرام، والبلد الحرام، ويوم عرفة. * 2- إلغاء شعائر الجاهلية وشعاراتها. 3- إبطال الثأرات التي كانت بين القبائل في جاهليتهم. 4- وضع الربا الذي كان منتشراً بينهم، وأول ربا وضعه ربا عمه العباس، وذلك ليكون قدوة في هذا الشأن يبدأ بنفسه وآله في تنفيذ الأوامر الربانية، فإن ذلك أدعى لقبول الناس، وتلك هي طريقة الأنبياء عليه السلام كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ۚ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ۚ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود:88 . 5- الوصية بالنساء وبيان مالهن من الحقوق، وما عليهن من الواجبات، وكيفية التعامل مع الناشز منهن. 6- الوصية بكتاب الله عز وجل ولزوم التمسك به، ومن لوازم التمسك بالكتاب: العمل بسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله تعالى في القرآن قد أحال على السنة في آيات كثيرة منها: أ- قول الله تعالى: {مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ۖ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} النساء:80. ب - قوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} آل عمران:31 ج - قوله - تعالى -: ( فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) النساء: 65. د - قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} الحشر من الآية:7. تحريم الدماء
قوله: «كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا» معناه: انه يحرم تعرضكم لبعضكم في دمائهم وأموالهم وأعراضهم. وقوله: «كحرمة يومكم هذا»: يعني تعرض بعضكم دماء بعض وأمواله وأعراضه في غير هذه الأيام كحرمة التعرض لها في هذا اليوم. وإنما شبه حرمة الدماء والأموال والأعراض بحرمة يوم النحر والشهر الحرام والبلد الحرام؛ لأنهم كانوا لا يرون استباحة تلك الأشياء، وانتهاك حرمتها بحال وقوله: «ودماء الجاهلية موضوعة» أي: متروكة لا قصاص، ولا دية، ولا كفارة، أعادها للاهتمام أو ليبني عليه ما بعده من الكلام. وقوله: «وأول دم أضعه» أي: أتركه، دماؤنا المستحقة لنا أهل الإسلام، أو دماء أقاربنا، ولذا قال الطيبي: "ابتدأ في وضع القتل والدماء بأهل بيته وأقاربه ليكون أمكن في قلوب السامعين، وأسدَّ لباب الطمع بترخص فيه". تحريم الربا
وقوله: «وربا الجاهلية موضوع» يريد أموالهم المغصوبة والمنهوبة وإنما خص الربا تأكيداً، لأنه في الجملة معقول في صورة مشروع، وليرتب عليه قوله: «وأول ربا أضع ربانا ربا عباس بن عبد المطلب فهو موضوع كله» معناه: الزائد على رأس المال كما قال الله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة من الآية: فوضع الربا معناه: وضع الزيادة، والمراد بالوضع: الرد والإبطال. الوصاية بالنساء
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا النساء فإنكم أخذتموهن بأمان الله»، فيه الحث على مراعاة حق النساء والوصية بهن ومعاشرتهن بالمعروف، وقد جاءت أحاديث كثيرة صحيحة في الوصية بهن، وبيان حقوقهن، والتحذير من التقصير في ذلك. وقوله صلى الله عليه وسلم: «أخذتموهن بأمان الله» هكذا هو في كثير من الأصول، وفي بعضها «بأمانة الله». وقوله صلى الله عليه وسلم: «واستحللتم فروجهن بكلمة الله» قيل: معناه قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} البقرة من الآية:229. وقيل: المراد كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم. وقيل: المراد بإباحة الله والكلمة قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} النساء:3. وقيل: المراد بالكلمة: الإيجاب والقبول، ومعناه على هذا: بالكلمة التي أمر الله تعالى بها. قوله صلى الله عليه وسلم: «ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح» ، وقال القاضي عياض: "كانت عادة العرب حديث الرجال مع النساء ولم يكن ذلك عيباً ولا ريبة عندهم، فلما نزلت آية الحجاب نهوا عن ذلك". وقوله صلى الله عليه وسلم: «ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف» فيه وجوب نفقة الزوجة وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع . تبليغ الرسالة وقوله: «وأنتم مسؤولون عني» أي: عن تبليغي وعدمه، فما أنتم قائلون في حقي؟ وقولهم: «قد بلغت» أي: الرسالة "وأديت" أي: الأمانة "ونصحت" أي: الأمة. وقوله: «اللهم أشهد» أي: على عبادك بأنهم قد أقروا بأني قد بلغت، أو المعنى: اللهم أشهد أنت؛ إذ كفى بك شهيداً.