هذه الرواية لا يمكن أن تقرأها كغيرها من الروايات التي تستمتع بها من خلال شخوصها وأحداثها وحواراتها بين الأبطال، إنما ينبغي أن تقرأها بروح المتصوف وقلب العاشق وعقل المفكر، وستشعل داخلك آلاف الأسئلة والأفكار التي تمور داخلك دون أن تقف عندها باعتبارها من المسلمات، ولتصبح قراءتها المتكررة تحمل لك جديدا كل مرة.. إنها رواية «إشراق» للقاص والروائي الطبيب محمد العدوي الصادرة عن دار الفكر العربي. أول ما يجذب نظرك في الرواية البساطة الشديدة في تناول المفردات الحياتية الصغيرة، وهذه المفردات وإن أرادها الكاتب خاصة جدا، يعبر من خلالها عن استكشافه لعالم جديد وكأنه الجنين الذي تتفتح عيناه علي عالمه الخاص لأول مرة، إلا أنه يلمس بخصوصيته أوتار مشاعرنا العامة التي مرت بذات التجربة بصورة أو بأخري، فمن منا لم يتعرف علي الله من خلال أسئلة طفولية يوجهها إلي من حوله؟ ومن منا لم يخفق قلبه بالحب علي فترات حياته، من بشائر الصبا حتي استواء العود؟ ومن منا لم ينغمس بصورة أو بأخري بالعمل السياسي أو الإخوان خلال فترة الجامعة تحديدا حيث ينتشر النفوذ الإخواني بضراوة داخل هذا المكان؟ كل هذه الأشياء تتناولها الرواية بزاوية خاصة جدا للراوي البطل إلا أنها في الوقت نفسه تشبه سيرة ذاتية للشعب المصري كله. والرواية تتناول الطفولة بزاوية فريدة جدا، حيث لم يخجل الكاتب من طرح الأسئلة الطفولية الاستكشافية التي تتناول الله وعلاقته بعباده واستجابته للدعاء، ولم يبتعد آمنا عن أفكار وأطروحات يتناولها كل منا في خياله الطفل في بداياته خوفا من الغوص غير الآمن في حقل الدين، بل نكأ هذه الأسئلة في بساطة ودون خوف، حاملا معه عقل الطفل ولسانه، للهروب من محاسبة قارئ متزمت ربما يأخذ الأسئلة علي محمل النكران والجحود. يقول الكاتب مثلا علي لسان الراوي عندما كان طفلا، ذلك الطفل الذي لا يعلم مَن الله، وما معني الدعاء لله، وكيف يستجيب لدعائنا، وهل إذا دعوناه أجاب فعلا، وما حقيقة العلاقة بينه كطفل وبين الله الذي يجيب الدعوات ويشفي المرضي ويجعله الأول علي مدرسته! في ذلك اليوم توضأت وصليت، تعجلت الوصول إلي السجود الذي أعلم أن الدعاء يكون فيه، ودعوت: يارب ماما تعبانة قوي وأنا مش عارف أعمل لها حاجة، خفف عنها واشفيها يارب. بدأت أضيف في جملة الدعاء التي لم تتغير طلبات أخري جديدة «يارب أبقي الأول في المدرسة»، أتلهف للصلاة لأدعو بهذا الدعاء، ثم أعود إلي مذاكرتي وأنا أتعجل الصلاة التي بعدها، حتي انتهي العام وأنا الأول للمرة الأولي. أصبحت أشعر أنني والله صديقان، أنه لا يرد لي طلبا أطلبه منه، وأنه يحبني وأنا أيضا أحبه، أطلب منه كل شيء أريده وهو يعطيني ما أطلب. هذه العلاقة البسيطة بين طفل لم تتفتح مسام إدراكه بعد، وبين الله الذي خلقه ويجيب له الدعاء هي ما يميز الرواية، هذه البساطة في العلاقات التي تتمدد لتشمل كل العلاقات بين البطل وباقي شخوص الرواية، والجمل الفكرية والفلسفية التي تزخر بها الرواية لم يأت بها الكاتب من خلال جمل تقريرية منفصلة، يثبت لك من خلالها قدرته علي الجدل والتفكير في مسلمات، وإنما جاءت جميعها من خلال مناقشات فكرية سواء بين البطل والآخر أو بين البطل ونفسه المشتاقة إلي المعرفة، المتطلعة إلي «إشراق» يكشف لها ظلمات المجهول! ولأن البطل يعيش معنا من بدايات طفولته حتي اكتمال نضجه في الجامعة واستقامة بعض أفكاره، فإننا نمر معه بمراحل مهمة لا تختلف عن بعض ذكرياتنا الخاصة، فيدخل البطل إلي عالم الجامعة ويتعرف علي الإخوان، القطب الأكبر سياسيا ودينيا داخل الجامعة، ويعرض اختلافهم الفكري عن السلف، القطب الديني الآخر داخل الجامعة، فينظر الإخوان للسلف علي أنهم لا ينشغلون سوي بالعبادات، وينظر السلف للإخوان علي أنهم يستغلون الدين سياسياً، هذا الصراع المحتدم هو ما فجر داخل البطل ينابيع المعرفة والاختلاف، وفتح عقله علي عالم رحب فكريا ودينيا، بعد أن ترك يده طواعية ل«حسين» ذلك القطب الإخواني الشاب في الجامعة، ليعرف منه إجابات بعض الأسئلة الدينية والفلسفية التي تمور في عقله، حتي يجرب البطل السجن لأول مرة في حياته لانغماسه مع حسين وتشبعه بالفكر الإخواني الديني الدنيوي، لتصبح هذه _وكالعادة_ نهاية كل من يتعامل مع هذا الفصيل الإخواني! حتي الجانب العاطفي من الرواية الذي يتناول علاقات الحب التي وقع فيها البطل علي مدار حياته، لم يتناول الحب بمنظوره المعتاد، بل تناوله فكريا وفلسفيا، ليخرج من كل تجربة ليس بجرح غائر وسهد جريح، وإنما بأسئلة ضارية وإجابات محتملة، وأفكار محمومة، ليظل البطل طوال الرواية يبحث عن «إشراق» يغمر حياته ويكشف له ما غمض من أفكار. الغلاف: سحب كثيفة تشرق من خلفها الشمس علي استحياء، لتنير للبطل طريقه الزاخم بالأفكار والأسئلة اللامتناهية.. فهل يرتاح عقله المحموم؟