لعل اتساع فضاء الأحداث بهذا الشكل هو ما جعل أوجه الحياة في الرواية تتداخل, فالسياسي يتداخل بالديني, والفكري ينمط الاجتماعي ويغدو ضربا من الدين وشكلا من السياسة. لم تحقق أي من الراويات اليمنية باستثناء رواية أو راويتين ضجة إعلامية وحضورا مكثفا في وسائل الإعلام ومواقع الانترنت قبل وصولها إلي يد القارئ مثل ما حققته رواية مصحف أحمر للغربي عمران، حين تحفظت عليها وزارة الثقافة ومنعت توزيعها وتداولها لتكون بذلك قد خدمت الرواية من حيث لا تدري, وجسدت قول من قال: وإذا أراد الحظ نشر رواية طبعت أتاح لها غباء وزاري والحقيقة أن الرواية من أنضج ما أبدعه الغربي عمران وأكثرها تفاديا للمثيرات الماسة بالأخلاق والحياء العام، وليس فيها ذلك الكسر العنيف والانتهاك الصارخ للمثل والرموز الدينية التي طالعنا بعض صورها في مجموعة منارة سوداء، وإنما جاءت في إطار من الحكي الممتع والرمزية الشفافة ابتداءً من العنوان الذي حمل كل معاني الإثارة والاستفزاز. يتجلي النضج الإبداعي في الرواية من قدرة السارد علي الإمساك بشبكة الأحداث المتشعبة والوقائع المتداخلة وإدماجها في خطين سرديين متوازيين: أولهما: رحلة النضال والكفاح المسلح الذي خاضته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطي ممثلة ببطل الرواية تبعة العطوي، وثانيهما رحلة البحث والمعاناة والحرمان والتشرد التي كانت من نصيب سمبرية راوية القصة وبطلتها الحقيقية. فضلا عن أن الرواية لم تنطلق من تقنية القص التقليدي حيث تسير الأحداث وفق تسلسل منطقي متصاعد يبدأ من الصفر ثم تتداعي فيه الأحداث إلي أن تصل لحظة التأزم أو الانفراج لتتخذ شكلا خطيا: بداية ووسط ونهاية، وهي كذلك لم تخلص كليا لتقنيات السرد السينمائي المعروفة بالخطف خلفا / الفلاش باك, وإنما استندت إلي تقنية الرسائل والمذكرات، وهي تقنية صعبة إذا ما أراد القاص النفاذ من خلالها لرصد وقائع متعددة وأحداث متباعدة مكانيا، لأن الراوي في أسلوب الرسائل والمذكرات محدود العلم محدود المعرفة الكلية إلا بما يدور حوله وفي محيطه، صحيح أن هذه التقنية من أكفأ الأساليب السردية وأقدرها علي الغوص عميقا في أغوار الشخصية وإبراز تداعياتها النفسية، لكن لا ينبغي من وجهة النظر النقدية أن يتعدي الغوص شخصية الراوي: المرسل أو صاحب الذكريات. ولكي يتجنب الغربي هذا المعوق النقدي عندما اتكأ بشكل أساسي علي شخصية سمبرية لتكون راوية حكايته لجأ إلي حيلة فنية أطلق عليها رسائل تبعة إلي سمبرية لتكون مبرره لسرد أحداث ووقائع كانت الراوية بعيدة جدا عن مسرح أحداثها، وهو ما أتاح له فرصة الإلمام بتفاصيل المشهد النضالي الذي خاضته الجبهة الوطنية في المناطق الوسطي في نهاية سبعينيات القرن الماضي ضد نظام صنعاء، جنبا إلي جنب مع ما كشفت عنه الراوية من صور الظلم والجور والتعسف والإقطاع المشائخي الذي كان ومازال مخيما علي كثير من المناطق اليمنية. ولعل اتساع فضاء الأحداث بهذا الشكل هو ما جعل أوجه الحياة في الرواية تتداخل، فالسياسي يتداخل بالديني, والفكري ينمط الاجتماعي ويغدو ضربا من الدين وشكلا من السياسة. مصحف الغربي ليس قرآنا جديدا لأن صاحبه ليس نبيا، ولا هو دعوة لدين جديد لأن الدين عند الله الإسلام! ولكنه دالة رمزية للفكر المتحرر من رواسب التعصب بكل أشكاله، إنه رمز لاتجاه فكري يؤمن بالتسامح وبتعدد الرؤي وبحق الآخرين في اعتناق ما يشاءون من الأفكار وما يروق لهم من المذاهب والمعتقدات بعيدا عن الإكراه أو التعسف، ولذا فهو فكر يقاوم الفردية وينبذ الطغيان ويرفض التسلط وتضخم الذات الشخصية علي حساب الذات الجمعية تحت أي مبرر كان سياسي أو اجتماعي أو حتي ديني. إن واحدية التفكير ليس دليل اتساق الحياة ونمائها بقدر ما هو دليل علي الجدب وانعدام الخصب وازدهار التسلط وسيطرة العقليات الشمولية واستبداد الإنسان بأخيه الإنسان، علي نحو ما يفهم من الإشارات الرامزة لحكايات الأجداد التي كانت وصية سمبرية لأملها حنظلة والتي تشير إلي تعاقب تاريخ الفرد وتسلطه واستبداده حتي حلت علينا نحن اليمنيين لعنة الذكر الواحد كما تقول الرواية، لتجعل من اشكاليتنا مع الفرد إشكالية قديمة وليست وليدة اللحظة أو حقبة تاريخية بعينها، وتجاوز لعنته يتطلب سياقا تاريخيا وتعويذة تعيد ترتيب الأشياء وفق منطق التعدد والتنوع، فكان لابد من مصحف أحمر/فكر متحرر, وتاريخ نضالي يعيد صياغة الحياة ويحدد موقع الفرد فيها. وما يدعم خضل هذه الرؤية ذلك الإيقاع المنتظم بين انكسار قوات الجبهة الوطنية حاملة هذا الفكر وبين انتزاع أوراق الديانات الأخري من مصحف العطوي الرمز الروحي لفكر النضال والتحرر. أما تلك النصوص المستلة من التوراة والإنجيل التي كان القاص يطالعنا بها بين الفينة والأخري فليست إلا نوع من مخاتلة القارئ والمكر به وتشتيت ذهنه عن اقتناص الفكرة من أول وهلة. وقد وجد الفكر المتحرر"العطوي ومصحفه الاشتراكي"، ووجدت الحاضنة الفكرية "الجبهة الوطنية" ووجد النضال "تبعة وشرهان وسمبرية وخمينة وغيرهم"، فهل تغيرت الموازين أم أن ابن فطمينا مازال هو ذاته بل امتد نفوذه واتسعت سطوته وثروته ليعاقبنا القاص بعد ذلك بهذا العنوان المستفز وكأنه يصرخ فينا قائلا : اليمن لن يستريح ما دامت الفردية تحكمه وما دامت العقلية القبائلية قائمة ووسيلة الحوار الوحيدة بين الأيديولوجيات المختلفة هي الإقصاء والتهميش و القتل والتهجير. في مصحف الغربي تنتاب الإنسان مشاعر متباينة، فحين تقرأ شوق سمبرية والتياعها علي فقيدها الغائب حنظلة تشعر بأنك أمام رواية اجتماعية، وتصادفك أحداث ووقائع وأقوال من مثل قول العطوي عشية إعلان الوحدة، لم يرحل التشطير...ما نراه مجرد صفقة لا يعرف احد تفاصيلها "ص321", فتتأكد بأن ما تقرأه رواية سياسية بامتياز، وحين تتوقف علي التفاصيل التاريخية لأحداث السبعينيات والمعلومات الدقيقة لوقائع ربما اطلعت عليها لأول مرة في حياتك يصح لديك أن مصحف أحمر رواية تاريخية. والحقيقة أن الرواية مزيج من كل ما ذكر ففيها الاجتماعي وفيها السياسي والتاريخي، لأن أحداثها مستوحاة من الواقع بكل ما يضطرم فيه ويعتمل علي صفحته من تلك المشاعر والاتجاهات. ولا استبعد مطلقا أن يكون لأحداثها وشخوصها جذور حقيقة وحضور فعلي، صحيح أن القصة أو الرواية مهما كان لها من أبعاد واقعية إلا أنها في الأول والأخير عمل متخيل وعالم افتراضي تتحرك شخوصه وكائناته علي الورق فحسب، غير أن الغربي في مصحفه الأحمر ترك مجموعة من الأسئلة المفتوحة لم يجب عنها مما فتح شهية التساؤل حبا في المعرفة والاطلاع، وبظني أن تلك التساؤلات ليست ناجمة عن سهو فني أو خضل في الرؤية، بل قد يكون مرد ذلك إلي واقعية الرواية وتعلقها بشخصيات لهم وجود فعلي علي أرض الواقع، وأول تلك التساؤلات يتعلق بصياغة الأسماء، فالغربي يفاجئنا في هذه الرواية بأسماء لم نسمع بها مطلقا علي الأقل في الإطار المكاني للرواية، مثل: سمبرية، تبعة، خمينة,،شخنما، فطمينا، وهي الشخصيات الأساسية في الرواية، طبعا قد تكون لعبة الأسماء إحدي استراتيجيات المؤلف، لكن الغربي لم يستمر في نحت بقية الأسماء علي هذا المنوال، بل جاء بأسماء مما نعرف ونعايش: مثل شرهان، محمد احمد الذحلي، عبده المقذي، علي صالح، فيدل، الرفيق ناجي من كولة السيد, الرفيق صالح من السدة، ومسعد من حمام دمت، والرفيق زيد من الخشعة...الخ، وهي شخصيات ثانوية تربطها بأحداث الرواية خيوط ضعفية، فلماذا في الشخصيات الأساسية جاء الغربي بأسماء غريبة جدا فيما تخلي تماما عن هذه الإستراتيجية في بقية الشخصيات. أما تالي التساؤلات فيتعلق بمسرح الأحداث والفضاء المكاني لتحرك الشخصيات، إذ نجد الغرابة تلف المكان الأساسي لبؤرة التداعيات السردية وهو حصن عرفطة، الذي بحثت لاسمه عن شبيه في الشبكة العنكبوتية "النت" فلم أجد إلا خمس نتائج كلها مقتبسة من مصحف أحمر, وغيره من الأسماء في الرواية فمما له وجود علي الأرض وبعضنا يعرف الكثير من تفاصيله. أعود وأكرر إن أي رواية هي عمل ذهني متخيل وليست لعبة الأسماء وفضاء الأحداث إلا جزء من الحيل الفنية التي يتوسلها المبدع لإيهامنا بواقعية الأحداث، وهذا بالضبط أساس اشتغال الغربي في مصحفه الأحمر، ومن يرسم خريطة لمسرح أحداث الرواية مستثمرا التفاصيل الدقيقة التي وشت بها وخاصة تلك المتعلقة بتنقلات تبعة في رحلته الأولي إلي معسكر التجنيد في منطقة القفر، ثم التحاقه بمعسكرات الجبهة في منطقة الضالع، ومن ثم عودته إلي حصن عرفطة للزواج بسمبرية وأخيرا تنقلاته بين جبهات القتال في جبال المناطق الوسطي، سيجد الروائي استطاع بذكاء حاد ومعرفة عميقة بتفاصيل تلك الأماكن أن يصنع لروايته فضاء سرديا متسقا فنيا وواقعيا، لولا ذلك الكسر أو الفجوة غير المردومة أو النقطة غير المضاءة في ما يتعلق بحصن عرفطة إذ أن الوصف الذي أضفاه السارد عليه لا يتناسب وتضاريس الموقع الذي حدده له 27 كيلو جنوب صنعاء، كما أن خط هروب تبعة منه وعودته إليه مشوب بكثير من الغموض، فرغم التزام الكاتب كما أسلفنا بتعداد الأماكن التي مرّ بها البطل في رحلته إلي الجنوب وتلك التي تنقل للقتال فيها إلا انه هنا كان غامضا حتي انه لم يتطرق مطلقا لمروره بذمار باعتبارها معبرا أساسيا لكل من يتجه إلي منطقة القفر أو سوق الخميس القريب من عتمة ، بل إن ثمة إشارات جمة تؤكد أن حصن عرفطة ليس هذا موقعه ألبته، وأنه أقرب ما يكون إلي ذمار منه إلي صنعاء، وليس القول بانتمائه إلي صنعاء إلا محاولة لتعميم ظلم المشائخ وطغيانهم واستبدادهم بالرعية باعتبار صنعاء عاصمة اليمن وما يجري فيها يصدق علي غيرها من المحافظات، وربما يكون ذلك لاعتبارات نجهلها وعلمها كما يقولون في بطن الكاتب، أو أن ثمة مغزي آخر صعب علينا اكتشافه من القراءة الأولي. إن الإلحاح علي اتساق شخصيات الرواية وفضاء الأحداث ليس هدفه التحقق من صحتها التاريخية بقدر ما هو مطلب فني بحت تفرضه طبيعة العمل الروائي عندما يستوحي من الواقع لغاية نفعية أو هدف ما، فان علي الروائي في هذه الحالة أن يحشد لعمله كل الإمكانات والحيل الفنية بحيث تنطلي رؤيته علي القارئ وتوهمه بواقعية ما حدث فيتفاعل معه وينفعل بوقائعه ويتخذ منها موقف ما. في مصحفه الأحمر يدهشك الغربي وهو يتنقل بين الأحداث وينقلك من رسالة لأخري، دون أن تشعر أن ثمة اضطراب أو تكلف في الانتقال بل يجعلك تنتقل معه بسلاسة وتعيش الأحداث كأنك أحد المنغرسين فيها، وذلك لم يكن لولا تلك الشخصية العبقرية التي أبدعتها مخيلته، وهي شخصية سمبرية فقد كان لعبارات الفقد ونشيج اللوعة التي كانت تفتتح به رسائلها إلي أملها الغائب حنظلة الدور الأبرز في تمهيد الانتقال من حدث إلي آخر، والكاتب لا يخفي إعجابه بها وتحيزه لأطروحاتها, بل إن صوته في كثير من الأحيان يتماهي مع صوتها، لتغدو بنت القرية - التي لم يتعد حظها من التعليم سوي بضعة دروس في فك الخط علي يد فقيه القرية - مفكرا كبيرا ومناضلا جسورا وفيلسوفا من طراز رفيع يصنع الحياة ويهبها للآخرين. والي جانبها تبرز شخصية العطوي كنموذج فذ للفكر المتحرر والشخص المتشبث بصلابة بالمبادئ التي يؤمن بها والآراء التي يعتقدها مهما لاقي في سبيل ذلك من الظلم والاضطهاد، لقناعته بعدالة المستقبل:غدا يشيخ الطغيان ولن يجد من يعيد إليه صباه.. من يحد أنيابه.. وسيبلي السوط الذي نظفره من جلودنا.. ولن يجد الجلاد من يسمع مبررات طغيانه "248" وهو- أي العطوي- وإن لم يحظ بما حظي به غيره من فرص الكلام والحديث عن الذات إلا أن أفعاله كانت خير دليل وأبلغ تعبير عن حاله مما لو كان تكلم، ويبدو "تبعة" وهو شخصية فاعلة ومؤثرة في مسار الأحداث وتداعيات السرد علي خلاف سمبرية والعطوي شخصية متقلبة وغير مستقره فكريا، فقد بدأ مناضلا جسورا وصاحب قضية ومبدأ، لينتهي به الأمر إلي أراجوز يلعن رفاقه السابقين ويتهمهم بالعمالة بعد أن أصبح مرتميا في حضن السلطة التي قاتلها ذات يوم، ليجسد بذلك أقسي صور الهزائم والانكسار لتطلعات الكثيرين وآمالهم في التغيير. إن مصحف أحمر رواية محتشدة بأشكال شتي من تناقضات الحياة وقسوتها وتلاعبها بالأحلام والطموح، وهي بما تحمله من رؤي فكرية وقيم فنية وما تشي به من صراعات إيديولوجية وسياسية نجتر آثارها إلي اليوم، تعد بحق انعطافة حقيقة ونقلة نوعية في تجربة الغربي عمران ورؤيته الإبداعية ليس علي مستوي المضمون فحسب، بل علي مستوي الشكل أيضا. الكتاب: مصحف أحمر المؤلف: الغربي عمران الناشر: رياض الريس