صاحب فكرة هذا المقال دون قصد أو تعمد هو عمرو ابن أختي - ابن الحادية عشرة سنة - فقد لاحظت أثناء حواراتنا عن أشياء مختلفة أن هناك لازمة في حديثه - حيث إنه يبدأ كلامه بكلمة (عادي)، وأحياناً يجيب عن سؤال ما بنفس الكلمة ( عادي )، أي أسأله مثلاً عاوز تاكل إيه فيقول: عادي، طب إيه رأيك في أن نفعل كذا فيجيب عادي...وقد استعجبت من هذه الإجابات ومن استخدامه كلمة عادي أكثر مما ينبغي، والحقيقة أنني ببعض التأمل - ولتسمها الفذلكة إن شئت - تأكدت أن استخدام عمرو هذه الكلمة ليس من قبيل اللازمة الطارئة، ولكن لأن عمرو ابن زمنه - ابن مرحلة باهتة من التاريخ - يتساوي فيها كل شيء مع أي شيء ونتوقع فيها أي شيء ولا نندهش من أشياء تستحق أن نموت من الصاعقة لأنها تحدث لنا وللبلد الذي نعيش فيه. عمرو ابن هذه المرحلة بلا شك وابن ذلك الزمن، زمن لا يفرق فيه قيمة أن تبحث عن عمل وتكافح، لأن هناك من يحصلون علي نفس الفرص التي يستحقها المكافحون لكنهم ينالونها بالرشوة وبالمحسوبية وبلعبة المصالح.عادي يعني.. بتحصل!! لن اقول إن عمرو ابن زمنه ولكن سأقول عمرو ابن ثقافة بلده وابن المرحلة التي تعيشها بلده، ولهذا السبب قررت أن أتخلي عن مشاهداتي وانتقاداتي الشخصية وأن ألعب معك عزيزي القارئ لعبة «هو ده عادي؟!». وقانون اللعبة باختصار يحتم علي كل قارئ ومواطن صالح أن يتأمل ولو قليلاً «العيشة إللي إحنا عايشينها» ولا أقصد العيشة الشخصية والتأمل الذي أقصده هو تأمل المشاهدات البسيطة التي نتعامل معها يومياً ولم نلتفت إلي كونها أمورًا غير عادية، وستكتشف مدي فجاجة ما نعيشه سواء بحسك الإنساني الذكي - في حالة إن كان لم يتشوه بعد - أو عن طريق ما إذا كنت قد سافرت إلي الخارج وعقدت بعض المقارنات بين ما تشاهده هنا وهناك!! وشروط اللعبة ألا تكتفي بالمشاهدة ولكن عليك بالمشاركة، مشاركتي ومشاركة قراء كثيرين غيرك بتلك الأحداث أو المشاهدات التي عايشتها في بلدنا مصر ولم تكن تلفت انتباهك، ولكنك ببعض التأمل اكتشفت بحسك «لو كان لسه مصحصح» أن ما شاهدته هذا لا يمكن أن يكون عادياً بأي حال من الأحوال. سأساعدك بعض الشيء وأعطيك بعض الأمثلة التي طرأت علي بالي خلال اليومين السابقين لكتابة المقال: تسير يومياً في الشارع، تذهب إلي عملك، ربما تسير علي كوبري 6 أكتوبر أو تمر علي الأهرامات أو تتنزه قليلاً علي النيل أو تذهب إلي أفخم مول في مصر، تقضي كل «مشاويرك» وتعود إلي بيتك سالماً غانماً ربما تحمل بعض الورد أو بطيخة إلي أسرتك، وربما لم تنتبه خلال رحلتك الطويلة في شوارعك يا مصر، أنك مررت علي ما لا يقل عن 18 مقلب زبالة في أماكن مختلفة. هذا الرقم منسوب إلي «ملاحظتي» لأنني قمت بهذه اللعبة عندما خرجت من منزلي الساعة الثانية عشرة ظهراً وعدت في الخامسة عصراً يتخللها ثلاث ساعات في مكان مغلق، أي أن 18 مقلب زبالة كانت حصيلة مشوار في الشارع لمدة ساعتين، وما خفي كان أعظم. هل هذا عادي؟!!! سأساعدك بمثل آخر: أعيش في المهندسين - أي هناك عمارة جديدة تبني كل يومين لدرجة أنني أقترح تغيير اسمها من المهندسين إلي «علبة السردين»، وأعمال البناء تتم آناء الليل وأطراف النهار، لدرجة أن أعمال الهدم وصوت الأوناش واللوادر يقتحم منزلنا مع صوت أذان الفجر، والحقيقة أنني وغيري نعاني، لكننا نتعامل مع الأمر بطريقة: «إمتي يخلصوا البرج ده ويرحمونا» أو نشكو الزحام المستقبلي الذي سيهل علينا ونتساءل عما إذا كان ذلك البر ج مصمما بجراج أم لا؟ وأشك أن يكون أحد تساءل: ما قوانين أعمال البناء في مصر؟ ما عدد الساعات التي بموجبها يعمل العمال خلال اليوم وما عداها تصبح جريمة تعد علي حريات السكان المجاورين، من قال إن العمل يتم في أي وقت من أوقات اليوم، وما علينا سوي رفع الوجاء بالدعاء إلي الله أن يتمها علي خير. المفارقة: أنني ذهبت في رحلة قصيرة للاستجمام في الساحل الشمالي منذ أيام قبل أن يعج بالمصطافين، ففوجئت أنه موسم البناء وتجديد الشاليهات وأن نفس المنطق يحدث هناك، حيث الخلاء وصدي الصوت والعمال يشعرون أنهم ينجزون أفضل خلال الليل، فإذا بأعمال الهدم تتم في منتصف الليل. والحقيقة أنني لا أعرف كيف لا يوجد قانون أو حتي لائحة، تجبر أصحاب وملاك العقارات بهذه الأماكن علي أن يقوموا بإصلاح وتطوير عقاراتهم من شهر أكتوبر وحتي نهاية شهر أبريل؟ لماذا يقومون بأعمال البناء في الوقت نفسه الذي من المفترض أن يكون وقت الاستجمام لآخرين؟ هل هذا عادي؟!!! لن أحدثك عن العادي في المعاملات اليومية أشتري سلعة من السوبر ماركت فأكتشف أن مدة الصلاحية منتهية، وعندما أعترض وأعيد البضاعة أفاجأ باعتذار البائع واستبدال نفس المنتج بآخر حديث!! هل هذا عادي؟!! منذ يومين ذهبت لشراء آيس كريم من سوبر ماركت، فوجئت أنه إنتاج يونيو 2009، أي ما يقرب من عام، فأوضحت للبائع خطورة ما يفعله، خاصة أنها منتجات ألبان وقد تكون من نصيب طفل تحدث له تسمما أو مشكلة... وأنهيت كلامي معه: حرام الله يخليك..لازم تشيلهم من الثلاجة، فقال لي باستهزاء: إن شاء الله حاضر. هل هذا عادي؟!! لن أحدثك عن العادي الذي أدمنه كل مواطن في بلدنا مثل أن تتعرض للظلم؟ عادي، تتعطل حياتك بسبب موظف بيروقراطي أو قوانين عقيمة... عادي، ان يضيع حقك عادي، أن تسمع عن مشكلة غذاء فاسد تم ضبطه.. عادي، أدوية مغشوشة... عادي، أحد البهوات سرق ونهب وتم تعيينه في منصب رفيع بالدولة... هو ده العادي جداً، تسربت امتحانات.. عادي، ما أكثر العادي في حيلتنا.. لدرجة أننا اعتدنا ما لا يمكن أن يكون عادياً في أي مكان، احترفنا «التكيف»... بصراحة اكتسبنا خصائص «البلادة» أكثر مما نحن عليه من بلادة، وتحصنا «بتخانة الجلد» وكأنه نوع من الدفاع عن النفس أو حماية الذات. معاكسات في الشارع.. عادي!! لفظ قبيح يخدش به آذان سيدة أو طفل... عادي مدرس وتلميذ يتعاركان بالضرب.. هذه قصة يومية عادية. مئات التفاصيل اليومية التي تدربت عقولنا وضمائرنا علي استقبالها والتعامل معها بمنتهي الأريحية، هذا التسامح والتجاوز المدهش الذي نعيشه في أبسط تفاصيل يومنا هو نفس القانون الذي نتعامل فيه مع حقوقنا ويتعامل به مسئولو هذا البلد معنا، لقد منحناهم فرصة أن يصنفونا في قالب «متسولي الحقوق» لا مستحقيها وأصحابها. نحن الذين صنعنا محرقة الظلم بأنفسنا في هذا البلد.. فكما كنتم يولي عليكم!! بعيداً عن لعبة الكلام في السياسة... أفضل أن نلعب لعبة «هو ده عادي؟» شاهدوا.. تأملوا.. شاركوا.. انتقدوا أنفسكم.. لعلنا نتغير ونغير. عادي يعني... مش صعبة!!