«أذيل هذا التمهيد ببيان وجيز لأشهر الوعود والتصريحات التي قالها باسم إنجلترا ممثلوها الرسميون، والتي كان لها أثر من الوجهتين الأدبية والقانونية. وإني ألفت إليها من أول الأمر أنظار القراء الذين لا يودون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة هذا التاريخ كله، أو الذين لا يتأثرون بوعود عشرين بل ثلاثين سنة لم تنفذ بعد، ولست أخال هذه الوعود إلا محركة لضمائرهم». هذا ما كتبه «ولفريد سكاون بلنت» في ختام التمهيد الذي صدر به «روتستين» كتابه «خراب مصر»، ثم أورد 24 نصاً من الوعود الكاذبة التي قدمها الساسة الإنجليز لمصر منذ احتلالها في 1882، وحتي وقت كتابة التمهيد في 1910. وألفت أنظاركم، مع «بلنت»، إلي أن قراءة هذه الوعود، ومقارنتها بما يواصل ساسة الغرب تقديمه من وعود لدولنا المحتلة، يكفي وزيادة لتأكيد أنهم مازالوا يكذبون بالطريقة نفسها، ومازلنا نصدقهم بالبلاهة نفسها، والعمالة نفسها. «بلنت» وفي سخرية أحسبها مقصودة يبدأ «الحاشية» التي عنونها «وعود إنجلترا» بمقتطف من رسالة ل«لورد جرنفل» مؤرخة في 4 من نوفمبر 1881، أي قبل احتلال بريطانيا لمصر بعشرة أشهر، وفيها يقول: «إن سياسة حكومة جلالة الملكة بالنسبة لمصر لا ترمي إلي غير سعادة هذه البلاد وتمتعها التام بما نالته من الحرية بمقتضي الفرمانات السلطانية المتوالية. وأريد أن يتضح لكل إنسان وضوحاً لا يعتريه خفاء أن إنجلترا لا ترغب في أن تكون بمصر وزارة مشايعة لها. إن حكومة جلالة الملكة تري أن وزارة مشايعة تعتمد علي معونة دولة أجنبية، أو علي النفوذ الشخصي لمعتمد دبلوماسي أجنبي، لا يمكن أن تفيد البلد الذي تحكمه، ولا البلد الذي يظن أنها قائمة لمصلحته». ووجه السخرية في هذا المقتطف، أن «اللورد جرنفل» هو نفسه «الفيلد مارشال فرانسيس والاس جرنفل» الضابط البريطاني الذي شارك بعد شهور من هذه الرسالة في معركة التل الكبير، الحاسمة في احتلال مصر، ثم هو الرجل الثاني في قيادة جيش الاحتلال البريطاني، وأخيراً سردار جيش الاحتلال منذ ابريل 1885، وحتي استقال من المنصب علي مضض في 1892! فانظروا أي كذب هذا، وأي «بلاهة تاريخية» تلك التي تجعلنا نقيم الآن وزناً لوعود لا تختلف أبدا عن هذا الوعد، صادرة عن شخصيات لا تختلف هي الأخري عن شخصية «الفيلد مارشال فرانسيس والاس جرنفل». ولست أخاطب هنا الحكومات والنظم، التي هي من «مخلفات الاحتلال» بل أخاطب شعوباً طال موتها، وآن لها أن تنتفض قبل أن تنقرض. المقتطف الثاني من الوعود الكاذبة التي يقدمها «بلنت» لا يبعد بنا عن المقتطف الأول كثيرا، فهو علي لسان «الملكة فيكتوريا» أو «جلالة الملكة» كما أشار إليها المقتطف الأول، التي ختم «اللورد جرنفل» حياته عضواً في مجلسها الخاص. تقول «فيكتوريا» عن مصر، في خطبتها أمام البرلمان في 7 من فبراير 1882: «سأستخدم نفوذي في المحافظة علي الحقوق التي قررت من قبل، سواء أكانت أقرتها الفرمانات السلطانية أم الاتفاقات الدولية. وسيكون ذلك بروح حب الخير لحكومة البلاد، وترقية نظمها ترقية ممزوجة بالحزم والحكمة». هذا ما قالته «الملكة فيكتوريا»، وأورده «بلنت» بوصفه محض كذب، وهو ما أدعوكم إلي مقارنته بما قاله الرئيس الأمريكي «باراك أوباما» في كلمته أمام جامعة القاهرة في 4 من يونيو 2009، وما ندرك الآن علي الأقل أنه لم يكن إلا كذباً خالصاً، تَرَسَّم فيه الرئيس الأمريكي خطي الاستعماريين الذين سبقوه: يعطيك من طرف اللسان حلاوة ويروغ منك كما يروغ الثعلب حيث قال «أوباما» في كلمته المشار إليها عن العراق: «أحداث العراق ذكرت أمريكا بضرورة استخدام الدبلوماسية وبناء الإجماع الدولي لتسوية مشكلاتنا كلما كان ذلك ممكناً. وفي الحقيقة فإننا نستذكر كلمات توماس جيفرسون الذي قال: إنني أتمني أن تنمو حكمتنا بقدرما تنمو قوتنا وأن تعلمنا هذه الحكمة درساً مفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها». فهل ترون أن العراق الآن يعبر عن أي «حكمة» أو «دبلوماسية»؟ وعن «أفغانستان» قال «أوباما»: «ولا بد أن تكونوا علي علم بأننا لا نريد من جيشنا أن يبقي في أفغانستان، ولا نري أو بالأحري لا نسعي لإقامة قواعد عسكرية هناك. خسائرنا بين الشباب والشابات هناك تسبب لأمريكا بالغ الأذي. كما يسبب استمرار هذا النزاع تكاليف باهظة ومصاعب سياسية جمة. ونريد بكل سرور أن نرحب بجميع جنودنا وهم عائدون إلي الوطن» وهو كلام أثبتت الأحداث كذبه، إذ تضاعف بعده مباشرة حجم قوات الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، وشرعت الولاياتالمتحدة في بناء وتحصين المزيد من قواعدها، كما تراجع إلي أقصي درجة أي حديث عن الانسحاب. وعن فلسطين، قال «أوباما»: «يتحمل الفلسطينيون الإهانات اليومية، صغيرة كانت أم كبيرة، والتي هي ناتجة عن الاحتلال. وليس هناك أي شك من أن وضع الفلسطينيين لا يطاق، ولن تدير أمريكا ظهرها عن التطلعات المشروعة للفلسطينيين، ألا وهي تطلعات الكرامة ووجود الفرص ودولة خاصة بهم» وقال أيضا: «إن الولاياتالمتحدة لا تقبل مشروعية استمرار المستوطنات (الإسرائيلية)» ومرة أخري، وقاطعة، أؤكد أن ما قاله «أوباما» مجرد كذب، إذ رأينا جميعا كيف استمر بناء المستوطنات، واستمرت الممارسات الإجرامية الصهيونية، لا في حدود «إهانة الفلسطينيين» فحسب، بل هي عدوان صريح عليهم وعلي العالم كله علي نحو ما تجسد في العدوان علي سفن أسطول الحرية ولا يمكن ولا يجدر بنا أن نصدق ما تدعيه الإدارة الأمريكية من أنها كالزوج المخدوع «آخر من يعلم»، إذ الواقع يؤكد أنها شريك أصيل في سائر الجرائم الصهيونية، بالتحريض والتنسيق والدعم. ألم يكن «جوزيف بايدن» وهو نائب الرئيس الأمريكي، في فلسطينالمحتلة عندما أطلق «نتنياهو» حملة اغتصاب مزيد من الأرض الفلسطينية في القدس؟ «نتنياهو» كان يجلس مع «بايدن» عندما انطلقت الجرافات تشق الأرض وتمهدها للبناء، ثم ما الذي فعله بايدن؟ ولول كالولايا كأنه مسئول عربي ثم صمت كالقبر، وكأنه أيضا مسئول عربي! وفي جريمة فضيحة/مهزلة/مجزرة...إلخ العدوان علي أسطول الحرية، كانت الإدارة الأمريكية حاضرة أيضا. ذلك أن العدوان جاء مواكبا لزيارة «رام إيمانويل» كبير موظفي البيت الأبيض، اليهودي الأمريكي الذي كتب عنه «يوئيل ماركوس» في صحيفة «هاآرتس» العبرية 28/5/2010 إنه: «ليس رئيس فريق البيت الأبيض الآن فحسب، بل اليد اليمني لأوباما طوال طريقه السياسي إلي الرئاسة، وهو الآن رجل ثقته الأول في البيت الأبيض». حسنا يا«أوباما»، إن ذراعك اليمني التي ذهبت إلي الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، لم تحل دون قتل وإصابة المشاركين في أسطول الحرية، وهم مدنيون مسالمون ذهبوا لتقديم مساعدات الحد الأدني من الحياة إلي أهل غزة، لم تكن ذراعك، ولا كانت إدارتك، درعا يحمي حقوق الفلسطينيين، كما زعمت. لكنها، وكما ثبت، كانت سهما يشير إلي مقاتلهم، وضوءا أخضر سمح بالعدوان عليهم، وأظن أن الاعتذار مرة بعد مرة بأن «واشنطن» فوجئت بالإجرام الصهيوني، ليس غير «استعباط» لا يليق بدولة، ولو صغري، أن ترتكبه، فما بالك بدولة كبري، بل بكبري دول العالم؟