حين يعقد رئيس الجمهورية اجتماعين وزاريين، الأول يوم 8 مايو، والثاني 12 منه، لمناقشة أزمة المواصلات والكثافة المرورية في القاهرة، ويخصص الأول لمناقشة أوضاع منطقة شرق العاصمة والثاني لغربها، فهذا يعني أن الأزمة وصلت إلي درجة من الخطورة بحيث أصبحت تشكل قلقا للنظام من إمكانية تحولها إلي مصدر آخر لاندلاع اضطرابات نتيجة شيوع السخط والضيق من ضياع أوقات الناس بسبب الزحام، وبطء سير السيارات في الشوارع، وقلة وسائل المواصلات العامة، وتعطلها وما يؤدي إليه ذلك من تجمع أعداد هائلة في المحطات والشوارع، ووجود إمكانية لإثارتهم واندلاع أعمال عنف لأتفه سبب نتيجة الضيق والتوتر، وهو ما يفسر لنا الوجودالسريع للأمن علي مداخل ومخارج محطات مترو الأنفاق إذا حدث عطل، وتحويل مسارات الأتوبيسات والميكروباصات إلي هذه الأماكن لنقل الركاب وتشتيت التجمعات الكبيرة لهم بأي وسيلة وأسرعها. أي أن مشكلة المرور والنقل أصبحت تتعلق بأمن النظام وتحتاج حلولا سريعة كتلك التي يتم اتخاذها بالنسبة لإضرابات واعتصامات العمال والموظفين والفئات الاجتماعية الأخري. والتي يرجع الفضل فيها لمباحث أمن الدولة لا للوزارة، لأنها التي كانت تدير المفاوضات مع المضربين والمعتصمين، وتستمع لمطالبهم، ونقلها للحكومة، صحيح أن اتحاد العمال ووزيرة القوي العاملة لعبا دورا في التفاوض، لكن أمن الدولة كان لها اليد العليا والأكثر تأثيرا. لكن إذا كان الأمن نجح في دفع الحكومة للاستجابة لمطالب العمال والموظفين، وإنهاء الكثيرمن المشاكل فإن مشكلة الكثافة المرورية والاختناق المتزايد، لا يتوقف حلها علي كفاءة إحدي إداراته المسئولة عنه، لأنها ترتبط أساسا بزيادة أعداد سكان المدينة، وما يملكونه من سيارات وسوء تخطيط المنشآت والمساكن وأماكنها والشوارع، وهي مسئولية وزارات أخري وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة فإن تخطيط القاهرة كان لعدد سكان يتراوح من مليونين وثلاثة، ولكنها بدأت تزدحم بما فوق طاقتها أثناء الحرب العالمية الثانية، واقتراب القوات الألمانية من الإسكندرية، ووصول أعداد هائلة من القوات البريطانية وحلفائها استعدادا لمعركة العلمين، ونزوح الكثير من الموظفين إليها والبحث لهم عن مساكن، وبعد الحرب بدأت عملية التوسع في البناء علي الأراضي الزراعية تلتهم أراضي الجيزة والهرم وإمبابة، وساهمت الحكومة بذلك ببناء مساكن العمال فيها والتي افتتحها الملك فاروق، ولوقف هذه الموجة بعد ثورة يوليو ظهر توجه البناء في المناطق الصحراوية، وبدأ بمشروع حي مدينة نصر، وتم تخطيطها علي أساس أن تكون شوارعها واسعة ومبانيها لا تتعدي أدوارا معينة باستثناء المباني الحكومية، وأن يتم التمدد في اتجاه صحراء السويس والإسماعيلية، وزاد من أعداد السكان وأزمة المرور قيام مناطق صناعية ضخمة في القاهرة، وبعد حرب أكتوبر 1973 بدأ السادات في تخطيط إنشاء المدن الجديدة ، لكنها زادت المشكلة تعقيدا، لأن هذه المدن اعتمدت علي القاهرة أساسا ولم يكن لأي منها ظهير زراعي ولم تستوعب كثافة سكانية، لأن غالبية العاملين لم يتركوا القاهرة ليقيموا فيها، وزاد علي ذلك عاملان في منتهي الخطورة، وهما فتح الباب أمام ظاهرة بناء عمارات مرتفعة ومتلاصقة سواء وسط المدينة أو بطول الكورنيش مما أدي لاختناق معظم شوارعها، وبدون تصريحات في كثير من الحالات بيع الدولة لأراضيها لإقامة مثل هذه المساكن، علي الرغم من صدور قرارات جمهورية بتفريغ وسط القاهرة وعدم بناء أي مساكن أو منشآت علي أي أراض مملوكة لأي جهة حكومية أو قطاع عام، حتي وإن كانت لهذه الجهة وتحويلها إلي مساحات خضراء أو مشروعات خدمية. و هو ما حدث وسط القاهرة في أرض الترجمان وعلي كورنيش النيل بدءا من أغاخان باتجاه وكالة البلح، وبدأ التخطيط أو قل التآمر - لاستحواذ المستثمرين المصريين والأجانب علي مناطق بولاق أبو العلا وأرض ماسبيرو وحي معروف وتحويلها إلي ناطحات سحاب، أي زيادة خنق وسط المدينة، وانتهي الصراع علي قلب القاهرة بتشكيل شركة تابعة للحكومة والمحافظة، أي أن البناء سيتم فيها بحجة أنها منطقة غالية وتشكل موردا ماليا، وهذا كله تم ويتم في وقت أعلنت فيه الحكومة أن لديها خطة لتخفيف الضغط علي المدينة بأن اقترحت عاصمة جديدة لمصر تتم سنة 2050، ولكن الفكرة قوبلت بالرفض وظهرت خطة نقل الوزارات إلي القاهرةالجديدة، وكذلك إخلاء مجمع التحرير، واتضح أن هناك اتجاها لبيعه لمستثمرين، أي أنه لا تخفيف لزحام أو يحزنون، مما دفع محافظ القاهرة لأن يعلن أنه لن يتم بيع المجمع ليكشف عن الصراعات الموجودة، وأما الأعجب من هذا فكان موافقة رئيس الوزراء علي بيع الأرض المطلة علي ميدان التحرير بسعر عشرة آلاف جنيه للمتر، لتحالف من شركة أكور وبنك جنرال سوسيتيه لإقامة فندق ضخم وهي أرض مملوكة للشركة القابضة للسياحة والسينما، وأخذت التفاصيل تتوالي شارك وزير الإسكان أحمد المغربي فيها، وأن وزارة الداخلية قبل سنوات باعت متر أرض تملكها بالقرب من المنطقة بعشرين ألف جنيه للمتر، وكان أول من أثار القضية زميلنا وصديقنا سعيد عبد الخالق - رئيس تحرير الوفد - وبعدها بدأت التحركات المضادة لوقف المشروع وإلغاء موافقة رئيس الوزراء بأن أعلن محافظ القاهرة رفضه لأنه سيتسبب في زيادة أزمة المرور والزحام. وبدأت المفاوضات لإلغاء العقد وتجددت الأزمة يوم الأحد أول مارس الماضي عندما تقدم عضو مجلس الشعب عن دائرة قصر النيل صديقنا هشام مصطفي خليل - حزب وطني - بطلب إحاطة حول العقد ووصفه بأنه تبديد لأموال الشعب. وفي تغطية لما حدث فإن زميلنا عبده صالح بجريدة «نهضة مصر» قال في تحقيقه يوم الاثنين 2 مارس إن هشام سأل عن اسم صاحب قرار البيع وقرار الإلغاء، ومن حدد السعر؟، وأن علي عبد العزيز - رئيس الشركة القابضة للسياحة والسينما - قال إن التراجع عن قرار البيع جاء بعد تعليمات شفهية حيث رفض الإفصاح عن اسم صاحبها، وأن عبد الرحمن بركة - وكيل اللجنة الاقتصادية بالمجلس - قال إن قرارا سياديا صدر بعد أن أثير أن شركة «أكور» يساهم فيها وزيران، أما علي عبد العزيز فنفي مشاركة الوزيرين أحمد المغربي - وزير الإسكان - ومحمد منصور - وزير النقل السابق - وجود علاقة لهما بالشركة، وأن لهما شركة لإدارة الفنادق «أكوا». وكنت قد قابلت هشام بعد النشر بأسبوع وسألته عن الحقيقة في هذه القضية، فقال إنه فور علمه بالاتفاق بعد توقيعه أسرع بإرسال خطاب للرئيس مبارك يشرح ما فيه من مخالفات، وباسم وزير الإسكان، وبعدها تم إيقافه، ولما سألته إذا كان قد فاتح الدكتور نظيف بعدها عن أسباب موافقته، فقال تحدثت معه، وقال لي إنه لم يكن يعلم بوجود صلة بين المغربي والمشروع، فسألته: وهل صدقت؟، فقال: هشام. نعم تأكدت أن نظيف لم يكن يعلم عندما وافق. وعلي كل حال فخيرا فعل الرئيس بهذا الاهتمام الشديد بتلك المشكلة، والمطلوب الآن أن يصدر تعليمات صارمة بأن قرارته السابقة والمتتالية منذ وزارة كمال الجنزوري بتحويل الأراضي المملوكة للدولة والقطاع العام وسط القاهرة إلي مساحات خضراء وعدم البناء عليها، لابد من الالتزام بها لا أن تنفذ الحكومة عكسها.